وسمعوا كلامي وهم سكوت وعرفوا أنهم قد أفشي تدبيرهم، فاعترفوا بكل صراحة وطلبوا الصفح والمغفرة، فقلت لهم: «ليس هذا في يدي الآن، اذهبوا إلى ضابطكم واعترفوا له بكل شيء أمام سائر الضباط، والفصل بعد ذلك للقانون.»
ثم أمرت الضابط بتأليف محكمة عسكرية وأن يجعل جميع صفوف الضباط يشهدون المحاكمة، ولكني أفهمته بأن يجعل المحاكمة مقصورة على المقبوض عليهم؛ وذلك حتى لا يفر سائر الجنود المشتركين في المؤامرة، وفي عصر اليوم نفسه تسلمت محضر التحقيق والاعترافات، ولكن لم يكن قد حكم بعد عليهم، فرددت الأوراق وطلبت النطق بالحكم، فجاءني ضابطهم وأخبرني بأن المحكمة حكمت بضربهم بالرصاص ولكنها تطلب تخفيف الحكم، ولكني شعرت بضرورة التنكيل بهم حتى يتعظ بهم غيرهم، فأيدت الحكم وأنا في أشد الألم والجزع وطلبت تنفيذه في الحال.
ثم أخرجنا المحكوم عليهم وحفرنا ست حفر، ووقفنا كلا منهم على حفرة خارج الزريبة وركع كل منهم ركعتين، ثم ضربوا بالرصاص ولم يبدوا أقل خوف. وخطبت الجنود الحاضرين عن خطر المؤامرات، وأن كل من يحدث نفسه بالثورة والفتنة سيعاقب مثل هذا العقاب، وقلت لهم إني أؤمل أن تكون هذه المأساة الأولى والأخيرة من نوعها، وأن تكون علاقتنا في المستقبل علاقة الصداقة.
وكنت حزينا مغيظا لهذا الحادث؛ فقد تذكرت العدد الكبير الذي فقدناه في المعارك الماضية، والآن أضطر أنا إلى اتخاذ أقسى الاحتياطات لحفظ النظام، وكان الدساسون حولي يعملون جهدهم لإضعاف سلطتي، وهم يجهلون أنهم لو نجحوا في ذلك لما تحسنت حالهم، والحقيقة أنه جاءهم زمن بعد ذلك كانوا يتحسرون فيه على عصيانهم أوامر ذلك الأوروبي الذي يكرهونه الآن.
وأرسلت في ذلك المساء في طلب محمد أفندي فرج، وسألته عن ماجريات النهار وماذا كان وقع ضرب الجنود بالرصاص في سائر الجيش. وأضفت إلى ذلك أنه يجب أن يعرف الجنود عدالة الحكم وأن الجانين يستحقونه، وأننا استعملنا الرأفة مع سائر من اشتركوا في المؤامرة، ثم قلت: «والآن يا فرج أفندي إني أرغب في أن تكون صريحا مخلصا لي، وأنا أعرف أنك تميل إلي وتطيعني، ولولا ذلك لما طلبت أن أخاطبك وحدك هنا، فأخبرني الآن كيف ينظر إلي الجنود والضباط ؟ وهل يحبونني أو يكرهونني؟ ولست بالطبع أقصد أولئك الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية.»
فقال فرج أفندي: «إن رجالنا لم يتعودوا هذه الصرامة في الأحكام، ولكنهم مع ذلك متعلقون بك لأنك مواظب على دفع المرتبات في مواعيدها، وهذا شيء لم يألفوه قبل، ثم هم يعرفون لك صنيعك في توزيع الغنائم بينهم، ولكننا خسرنا هذا العام خسارات فادحة؛ ولذلك سئم رجالنا القتال.»
فقلت: «ولكننا مضطرون إلى القتال، فنحن لا نخرج للفتح أو للمجد الحربي، وأنا شخصيا أوثر الراحة والدعة.»
فقال فرج أفندي: «إني أفهم هذا بالطبع ولكن هذه الخسائر التي كان يمكن تجنبها قد أثرت في الجنود؛ فقد فقد أحدهم أباه وآخر أخاه وآخرون فقدوا بعض قرابتهم أو بعض أصدقائهم، وإذا استمر هذا فإن القتال يشق عليهم.»
فقلت: «وأنا أيضا أدرك ذلك، وإن كنت لم أفقد أبا أو أخا فإني فقدت أصدقاء، ثم إني أخاطر بحياتي العزيزة كما يخاطر الجنود بحياتهم، فأنا على الدوام معهم وجسمي عرضة للرصاص أو للحراب مثل أجسامهم.»
فقال: «إنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة، ويجب عليك أن تشكرهم لإطاعتهم رجلا أجنبيا يخاطرون بحياتهم معه.»
Unknown page