فقلت: «حقا إني أجنبي أوروبي، وليس هذا سرا مكتوما ولا أنا أتعير منه، فهل رجالنا مستاءون من ذلك؟ اصدقني.»
وكان محمد فرج من أحسن الضباط تربية، وقد درس في عدة مدارس في القاهرة، ولكنه دخل الجيش جنديا بسيطا، وكان يعرف في غيره الميزات التي يمتاز بها، وكان على الدوام مستعدا لأن يتعلم من أولئك الذين حصلوا على تربية أعلى من تربيته، ولم يكن متعصبا أو متدينا ولكنه كان حاد المزاج كثير التذمر، وكان تذمره وحدته جماع ما عنده من الصفات السيئة، وقد قادته إلى ارتكاب بعض الجرائم فنفي من أجلها إلى السودان.
فلما طلبت منه أن يصدقني رفع رأسه ونظر إلي وقال: «ترغب مني في أن أخبرك الحقيقة، فهاكها؛ إنهم لا يعترضون عليك لأنك أوروبي، بل لأنك غير مسلم.»
والآن عرفت منه ما أردت معرفته، فقلت له: «ولم يعترضون على ديانتي؟ لقد أمضيت السنين الطوال في دارفور وهم يعرفون أني مسيحي فما اعترض أحد علي.»
فقال: «تلك أيام أخرى تختلف عن أيامنا الآن، فإن هذا الوغد المدعو المهدي قد تستر بالدين، وله أنصار يحضون الناس على اتباعه لكي يبلغوا أغراضهم السافلة.
وقد انتشر بين جنودنا رأي لا أعرف من أول من أذاعه، مقتضاه أن هذه الحرب دينية، وأنك لن تربح معركة فيها، وأن الهزائم ستتوالى عليك حتى تقتل في النهاية، وأنت تعرف أن الجنود الجهلة يصدقون هذه الأقوال، وهم يعللون هزائمهم بأنك مسيحي، ورجالنا لا يدركون أن خسائرنا ناشئة عن تفوق العدو علينا في عدد الرجال، وأننا ما دمنا لا نؤمل في مجيء أمداد فإننا سنستمر على الهزيمة.»
فقلت له: «هبني صرت مسلما فهل رجالنا يصدقون إسلامي ويؤملون في النصر؟ وهل هذا يزيد من ثقتهم في؟!»
فقال لي: «يصدقونك بلا شك، أو على الأقل كثرتهم تصدقك، ألم تتحين كل فرصة لإظهار احترامك لديانتنا وأجبرت غيرك على احترامها؟ تأكد أنهم سيثقون بك، ولكن هل تغير دينك عن عقيدة؟» قال هذا وهو يبتسم.
فقلت له: «اسمع يا محمد أفندي، أنت رجل ذكي قد حصلت على تربية وتعرف أن العقيدة لا شأن لها فيما نحن فيه الآن، وفي هذه الدنيا يحتاج الإنسان إلى أن يعمل أعمالا تخالف عقيدته، إما اضطرارا وإما لسبب آخر، وحسبي أن يصدقني الجنود ويثقوا بي ويقلعوا عن خرافاتهم السخيفة، ولست أبالي بتصديق سائر الناس، وأنا أشكرك الآن شكرا جزيلا، وأطلب منك ألا تجعل هذا الحديث يخرج من فيك لأحد.»
وتركني محمد أفندي فرج فتأملت وترويت قليلا في الموضوع، ثم استقر رأيي على أن أظهر في اليوم التالي أمام الجيش كأني مسلم، وكنت على تمام المعرفة بأني في اتخاذي هذا الموقف سيلومني البعض، ومع ذلك قد عزمت على إمضاء نيتي؛ لكي أقطع على الدساسين حبل دسائسهم، وتتاح لي الفرصة لأن احتفظ بالمديرية التي عهدتها إلي الحكومة المصرية. وكنت في شبابي لا أبالي كثيرا بالدين ، ولكني كنت أعتقد أني بالتربية والعقيدة مسيحي مؤمن بالمسيحية، وإن كنت أميل إلى التسامح وإلى أن يختار كل إنسان طريقة الصلاح التي يشتهيها، ولم يكن ذهابي إلى السودان بصفتي مرسلا مسيحيا، وإنما كانت المهمة التى أعرفها ومن أجلها ذهبت أني موظف في خدمة الحكومة المصرية.
Unknown page