قلت: «أخبريني ما بك!»
قالت: «يحزنني الربيع، يحزنني أن أرى مواكبه الجميلة تسير في الفضاء فلا يراه البشر إلا من كوى ضيقة نقبت في الجدران الحديدية التي أقامها المجتمع حول الأرواح. ويحزنني ألا أكون مستقلة بكوتي وأن يكون للآخرين حقوق عليها يفتحونها ويغلقونها كيفما شاءوا لا مثلما أريد.»
قلت: «ماذا يحزنك؟»
قالت: «يحزنني الربيع، تحزنني هذه الأزهار الزرقاء والصفراء والحمراء. إنها تنور على أطراف الأغصان وتبرز جمالها وسط جمال الكون. إنها تستنشق الهواء بكل ما فيها من قابلية وتتمتع بالحياة بكل ما فيها من استعداد، فلماذا قدر على بني الإنسان أن يكونوا دون النبات حرية؟!»
قلت: «قولي لي سبب حزنك.»
قالت: «مسألة تافهة أعادت إلي التأمل في هذا الصباح كما نبهته في قبل الآن. لي شقيقة تقطن الإسكندرية مع زوجها، ولي بها ولها بي ولع عظيم، فنتكاتب مرة في الأسبوع. على أن تمر رسائلها تحت نظر والدي ووالدتي وأخي وأختي وأخي الأصغر حتى تنتهي إلي بالتالي؛ لأنني أحدث أفراد العائلة سنا. ولا يلقى خطابي إليها في صندوق البريد إلا بعد أن يطلع عليه وينتقده ذوي. مع أن مراسلتنا عادية ساذجة، لا أهمية لها إلا بكونها جزءا من حياتنا، وليس لدي من سر أخفيه، ولكني أريد أن أحفظ حقي في أن يكون لدي أسرار. وهذه المعاملة تعذبني منذ شهور لأنها تنم عن ضعف ثقتهم بي وأنا لم أفعل قط ما يستوجب سوء الظن. وصرت أتألم كلما وردت إلي رسالة لأنها تذكرني بأن في بيتنا قلم مراقبة منظما.»
ورفعت رأسها ناظرة إلى الزهرات الفرحة بأنفاس الربيع وأرسلت زفرة عميقة، ثم قالت: «معاملة كهذه تحملني على الشك في صلاحي وكرامتي. وقد يدفعني الغيظ والكبرياء إلى فعل ما لا أفعله لو كان لأهلي بي ثقة. النبات حر فلماذا لا يكون الناس أحرارا؟!»
مسألة تافهة في ذاتها. ولكنها تتكرر بين الوالدين والأبناء فتفضي إلى أحد اثنين: التمرد أو العبودية وكلاهما سيئ، بل العبودية وحدها ممقوتة والتمرد نبيل في الغالب يدل على القوة والحياة. ولكن كثيرا هم الأبناء الذين يجدون ضغط الوالدين على حريتهم أمرا طبيعيا فلا يتألمون؛ لأن نفوسهم عقيمة قاحلة لا ينمو فيها غير الشوك والعوسج.
يتألف التهذيب من أعمال وحركات متتابعة مدة أعوام بين الآباء والأبناء، كما يتركب تمرين الأعضاء من حركات مستطردة يأتيها الفرد في أوقات معينة فتكسبه خفة ورشاقة وانتظاما.
وإن لم يروض المرء أعضاءه ضعفت وأمست ضخمة الشكل بطيئة الحركة، وقد يذهب به الجمود إلى فقد الصحة، فما الخلل الذي نراه الآن في تربيتنا إلا نتيجة جمود الأعضاء المعنوية من نشء الأجيال الماضية؛ ولأننا جميعا عبيد الجهل المقيم والضغط القديم.
Unknown page