لماذا تراقب مراسلات الفتيات؟ سمعت عن رجل ينهى شقيقته عن مراسلة صديقة لها؛ خوفا من أن يطلع أخوها على تلك الرسائل، ثم اتصل بي أن ذلك الرجل يظن نفسه حرا أبيا (؟!) يقضي ليله وشقيقته هذه حول طاولة البوكر مع شبان آخرين وفتيات أخريات، ورأيته وإياها يحتسيان الجعة في حانة يتصاعد في جوانبها لهاث السكارى، ورأيته فيما بعد داخلا بها عارية النحر والذراعين إلى المرقص لتنتقل على وفق الإيقاعات الموسيقية من يد رجل إلى يد آخر، فضلا عما يجيزه «تمديننا» الحديث من مداعبة كلامية يسميها الغربيون «فلورت» ويستعملها كثيرون منا دون أن يحاولوا إيجاد اسم لها.
فكيف نوفق بين النقيضين؟ بين التساهل في قبول العادات الأوروبية المتفشية بيننا وبين الاستعباد الشرقي الراكد في مستنقعات نفوسنا؟ إن هذا الخلل في توازن التربية يعذب الشبيبة ويجعلها أليفة الحيرة والتردد جاهلة بهما قيمة الحياة. إنما الحياة في قيمة ننسبها إليها، فكيف نهتدي إلى قيمة الحياة التي لا تبرز إلا للمنتبه المتيقظ الواثق من حريته في القول والعمل، كيف نهتدي إليها في هذا التناقض المبين؛ تناقض الضغط الشديد والتهور المجازف؟ •••
إنما التربية ترمي إلى غاية واحدة هي توسيع دائرة الحياة وتأهيل الفرد للسير بحذق والتصرف باعتدال بين تشعب الشئون مستخرجا وسائل السعادة والفائدة مما يحيط به، فإن لم تكن هذه الغاية نصب عيون الوالدين ولم تثقف الناشئة على مبادئ التهذيب القويم فقدت آمالنا بالمستقبل القريب. وأول قواعد التهذيب معرفة الواجب، وشرط معرفة الواجب الشعور بالحرية.
أقول الحرية وأعنيها، وهي ليست الإباحية كما يزعم كثيرون، والفرق بينهما أن للواحدة حدودا تهدمها الأخرى وتتجاوزها.
على الوالدين أن يقوموا بما عليهم نحو الأبناء ثم فليتركوهم وشأنهم يأتون ما يميلون إليه، والضمير الحي يراقبهم والخلق القويم يحميهم، فإن جاء عملهم بخير كان فيه تعزية وتشجيع على المثابرة والإقدام، وإن جاء بشر كان أمثولة مفيدة ومادة اختبار ينتفع بها في الكوارث والرزايا المالئة سبل العمر.
كل امرئ يحيا حياته وعليه أن يجد طريقه بين متشعب المسالك، وهو مسئول عن كل عمل يأتيه ويتحمل نتائجه؛ إن فائدة وإن أذى، فالفتاة التي اعتادت الانقياد لآراء والديها وعجزت عن إتيان عمل فردي تدفعها إليه إرادتها بالاشتراك مع ضميرها، ما هي إلا عبدة قد تصير في المستقبل «والدة»، ولكنها لا تصير «أما» وإن دعاها أبناؤها بهذا الاسم؛ لأن في «الأمومة» معنى رفيعا يسمو بالمرأة إلى الإشراف على النفوس والأفكار، والعبدة لا تربي إلا عبيدا. ولا خير في رجال ليس لهم من الرجولة غير ما يدعون، إن هم سادوا فعلوا بالقوة الوحشية، وهي مظهر من مظاهر العبودية. أولئك سوف يكونون أبدا أسرى الأهواء وعبيد الصغائر الهابطة بهم إلى حيث لا يعلمون، إلى الفناء المعنوي، إلى الموت في الحياة.
تربيتنا الناقصة جعلتنا نسيء الظن في كل شخص وفي كل أمر. ريح سموم تهب على المجتمع فتصبغ الجو وما يحويه بلون قاتم خبيث. ولو أنصف الناس لحكموا على بعضهم بعدل وصدق فأراحوا واستراحوا. الخير أصل في الحياة وليس الشر شرا إلا لأننا أشرار، ولا ظلام حولنا إلا الظلام المنبثق من شكوكنا وأحزاننا ومطامعنا.
احتياجنا شديد إلى مثل هذه الكلمة «ثقوا بالإنسان!»
أما جاءكم خبر ذلك العالم الألماني الذي كان يدفع إلى ابنته البالغة من العمر 16 سنة رسائلها مختومة، ولما لامه أحد أصدقائه أجاب: «ثقتي بالفطرة النسائية عظيمة. لا أقرأ رسائل ابنتي بل أعرض عليها رسائلي، وعوضا عن أن أشحن دماغها بآرائي ونصائحي التي قد لا تتفق مع ظروف حياتها أسألها رأيها في كل ما يشكل علي من الأمور؛ فالمرأة أوفر من الرجل نبلا؛ لأنها أقرب منه إلى سرائر الأحوال وقلب الأشياء.»
مع هذا الرجل الحكيم أقول: «ثقوا بجوهر المرأة، ثقوا بابنة اليوم تجدوا أبناء الغد أهلا للثقة.»
Unknown page