Saq Cala Saq
الساق على الساق في ما هو الفارياق
قال وأروق الأفكار وأبدعها ما يخطر في ثلاثة أحوال: الأول في مبادئ الحزن. والثاني في الفراش قبيل النوم. والثالث في بيت الخلاء. فإن هذه الحال لما كانت عبارة عن تحليل مواد متكاثفة تتنفس عنها الأمعاء والأعفاج. كان هذا التحليل والتنفس أسفل مؤثرًا في تحليل ما تعقد في طبقات الدماغ العليا في وقت واحد ومكان واحد. فيكون بعض المواد داهبًا سفلًا وبعض الصُوَر صعدًا. كالبخار الذي يصعد من الأرض فيعقد سحابًا ماطرًا. فقد عرفت مما مرّ أنه يتحصل من الحزن من الفوائد ما لا يتحصل من الفرح. لأن الفرح يبعث على الطيش والذهول وتشتت الخواطر في أهواء النفس وأوطارها المنتشرة. فهو عبارة عن تعدّد أهواء وتفريق خواطر. والحزن عبارة عن ضمّها ولمّها ولهذا كان جل العلماء من الصعاليك المبتئسين وقل من نبغ في المعرف من الأغنياء في المعارف من الأغنياء والمترفين. إلا أن يكون قد غرس في طباعهم نوع من الزهد والعزوف المقترن بالحزن. قال وأحسن ما سنح لي من الخواطر إنما كان عن كان إنما كان عن بواعث أشجان، وخوالج أحزان. أما من وحشة فراق أو من خيبة وحرمان. أو من حسد على علم وبراعة، أمّا على مال وثروة فلا. اللهمّ إذا كان لمصلحة كإنشاء مدارس ومؤاساة محتاج.
وأني لا عجب من هؤلاء الرهبان فأنهم مع ما هم فيه من الوحشة والحرمان فما أحد منهم نبغ في علم أو مأثرة. ولو كنت راهباُ لملأت الدير نظمًا ونثرًا والّفت على العدَس وحده خمسين مقامة. ليت شعري كيف يمكن لبشر إذا خلا في صومعته ورأى تحتها الغياض المدهامّة والبحر الساجي والجواري المنشآت. وعن يمينه وشماله الجبال الشامخة المكللة بالثلج وفوقه الرقيع الصافي وأمامه القرى والمنازل أن يقضي نهاره كله وهو يرمش ويرضيك ويتثاءب ويتمطى ويملد معدته من دون تأليف ونظم ولا سيما أن من حسن ساكنات تلك الديار ما يشرح الصدر ويروج عن البال. فإذا كانت هذه المناظر البهيجة كلها لا تهيج هؤلاء النسّاك على تأليف كتاب فأيّ شيء بعدها يهيجها. هذا وأن كثيرًا من المسجونين قد ألفوا وهم في الضنك تآليف بديعة، يعجز عنها سكان القصور الوسيعة. فأما ما قيل عن عبد الله بن المعتز من أنه كان ينظر إلى أواني داره ويشبه بها فليس كل كعبد الله. فأنّا نرى الناس الآن كلما زاد ثراهم قل حجاهم. والحاصل أن وحشة الفراق تبعث الخاطر على ابتكار المعاني الدقيقة. وكذلك الصدّ والهجران والأعراض والمطل والعتاب والشفون والدلال والتمنع والتعزز من طرف المحبوب. ولكن ليس محصول هذا الحاصل إغراء الحبيب بهجر محبَّه حملا له على النظم. أو تعمد الفراق بعثًا له على وصف ما يجده من الشوق واللوعة. فإنه أحسنه ما جاءت به المقادير دون تعريض له. وها أنا أبرئ نفسي عند العاشقين والمتزوجين وأقول: أنه إذا جرى بينكم وحشة أوجبت الفراق، أوفراق أوجب الوحشة. أوصدّ أو هجر أو لجاج. أو جدال أو اعتلاج أو تقافس أو صراع بالشَغْربية والشغزبية والقرطبي والألهاد والدهشرة والظُهارية والمبأشة والبأش والعُرْضة والنُقَض والمراسغة والتنسّف والتعرُّق والاعتقال فما يكون عليَّ في ذلك عتاب ولا ملام.
1 / 184