تنبيه من المؤلف
الحمد لله الموفق إلى السداد والملهم إلى الرشاد. وبعد فإن جميع ما أودعته في هذا الكتاب فإنما هو مبنيّ على أمرين أحدهما إبراز غرائب اللغة ونوادرها فيندرج تحت جنس الغريب نوع المترادف والمتجانس وقد ضمنت منهما هنا أشهر ما تلزم معرفته وأهم ما تمس الحاجة إليه عن نمط بديع ولو ذكر على أسلوب كتب اللغة مقتضبًا على العلائق لجاء مملًا وقد راعيت سرده مرة على ترتيب حروف المعجم ومرّة نسقته بفقر مسجعة وعبارات مرصعة. ومن ذلك القلب والأبدال كما في التورور والثورور والتوثور والترتور وتمطي وتمتي وتمطط وتمدد. ومنه إيراد ألفاظ كثيرة متقاربة اللفظ والمعنى من حرف واحد منحروف المعجم نحو الغطش والغمش والبهز والبحز والبغز والحفز تنبيهًا على إن كل حرف يختص بمعنى من المعاني دون غيره وهو من أسرار اللغة العربية التي قل من تنبه لها. وقد وضعت لهذا كتابًا مخصوصًا سميته منتهى العجب في خصائص لغة العرب. فمن خصائص حرف الحاء السعة والانبساط نحو الابتحاج والبداح والبراح والأبطح والأبلنداح والجح والرحرح والمرتدح والروح والتركح والتسطيح والمسفوح والمسمح في قولهم أن فيه لمسمحًا أي متسعًا والساحة والانسياح والشدحة والشرح والصفيحة والصلدح والاصلنطاح والمصلفح والطح والمفرطح والفشح والفطح والفلطحة إلى آخر الباب. ويلحق به ألفاظ كثيرة خفية الاتصال لا تدرك إلا بإمعان النظر نحو الأسجاع والتسريح والسماحة والسنح. ومن خصائص حرف الدال اللين والنعومة والغضاضة نحو البراخدة والتيد والثأد والثعد والمثمعد والمثمغد والثوهد والثهمد والخبنداة والخود والرادة والرخودة والرهادة والعبرد والفرهد والأملود والفلهود والقرهد والقشدة والمأد والمرد والمغد والملد إلى آخر الباب. ويلحق به من الأمور المعنوية الرغد والسرهدة والمجد وغير ذلك. وربما عادلوا في بعض الحروف أي راعوا فيها الإكثار من النقيض فإن حرف الدال يشتمل أيضًا على ألفاظ كثيرة تدل على الصلابة والقوة والشدة. وذلك نحو التأدد والتأكيد والتأييد والجلعد والجلمد والجمد والحديد والسحدد والسخدود والسمهد والتشدد والصفد والصلد والصلخد والصمغد والعجرد والتعجلد والعرد والعربد والعرقدة والعصلد والعطود والعطرد والعلد إلى آخره. ومن خصائص حرف الميم القطع والاستئصال والكسر نحو أرم وأزم وثرم وثلم وجذم وجرم وجزم وجلم وحزلم وحسم وحطم وحلقم وخذم وخرم وخزم وخضم إلى آخر الباب. ويلحق به من الأمور المعنوية حمّ الأمر أي قضي وحرم وحتم وحزم فإن معنى القطع ملحوظ فيها. ويكثر في هذا الحرف أيضًا معنى الظلام والسواد. ومن حرف الهاء الحمق والغفلة والرثء أي قلة الفطنة نحو أله وأمه وبله والبوهة وتفه والتوه والدله والسبه وشده لغة في دهش أو مقلوب منه وعته وعله وغمه ونمه ووره. وقس على ذلك سائر الحروف. ومن هذا الغريب أيضًا كون بعض الصيغ يختص بمعنى من المعاني نحو أجرهدّ وأسمهرّ وكل ذلك مشار إليه في هذا الكتاب فينبغي التفطن له.
وقد طالعت كتاب المزهر في اللغة للإمام السيوطي ﵀ مما ذكر فيه خصائص اللغة نقلًا عن الإمام اللغوي إبن فارس فلم أجده تعرّض لهذا النوع بل ربما أورد من الخصائص أحيانًا ما لا ينبغي إيراده كجعله مثلًا إطلاق لفظة الحمار على البليد منها. ومن ذلك الغريب النوادر من الألفاظ وذلك نحو قولي أكهى في صفة الرجل المتقرقف من البرد قال في القاموس أكهى سخن أطراف أصابعه بنفس. ونحو العنقاش للذي يطوف في القرى يبيع الأشياء. والضوطار وهو من يدخل السوق بلا راس مال فيحتال للكسب والذئابة أي بقية الدين. وثرمل يقال ثرمل الطعام لم يحسن أكله فأنتثر على لحيته وفمه.
1 / 1
ويتكظكظ وهو أن ينتصب الإنسان عند الأكل قاعدًا كلما امتلأ بطنه. ونحو الجلهزة والتلحذ والوزم والأرغال وغير ذلك مما فسر بعضه وترك الباقي فرارًا من تكبير جرم الكتاب. والأمر الثاني ذكر محامد النساء ومذامهن فمن هذه المحامد ترقي المرأة في الدراية والمعارف بحسب اختلاف الأحوال عليها كما يظهر مما أثرت عن الفارياقية. فإنها بعد أن كانت لا تفرق بين الأمرد والمحاوق اللحية وبين البحر الملح وبحر النيل تدرّجت في المعارف بحيث صارت تجادل أهل النظر والخبرة وتنتقد الأمور السياسية والأحوال المعاشية والمعادية في البلاد التي رأتها أحسن انتقاد. فإن قيل إنه قد نقل عنها ألفاظ غربية غير مشهورة لا في التخاطب ولا في الكتب فلا يمكن أن تكون قد نطقت بها. قلت إن النقل لا يلزم هنا أن يكون بحروفه وإنما المدار على المعنى. ومن تلك المحامد أيضًا حركات النساء الشائقة وضروب محاسنهن المتنوّعة التي لم يتصوّر منها شيء إلا وذكرته في هذا الكتاب لا بل قد أودعته أيضًا معظم خواطرهن وأفكارهن وكل ما أختص بهن.
فاتحة الكتاب
هذا كتابي للظريف ظريفًا ... طَلِقَ اللسان وللسخيف سخيفا
أودعته كلما وألفاظًا حلت ... وحشوتهُ نقطًا زهت وحروفا
وبداهةً وفكاهة ونزاهة ... وخلاعة وقناعة وعُزوفا
كالجسم فيه غيرُ عضوٍ تعشق ... المستور منه وتحمد المكشوفا
فصَّلته لكن على عقلي فما ... مقياس عقلك كان لي معروفا
قعّرته بمحافر الأفكار كي ... يسع الكلام وسمته تجويفا
لفقّته وخصفته بيدي فقل ... نِعمَ الكتابُ ملفقًا مخصوفا
أفرغت فيه كل حبرٍ راقَه ... وله بريت من اليراع ألوفا
وكأنما بيدي قد نمقته ... حتى أتى مستحكمًا مرصوفا
ألّفته والليل أسود حالك ... فلذاك جاء مسخمًا مسجوفا
تبلته لك دون طاهي القوم بالرّب ... لات في تزيل منك خُلوفا
وتصخ ما بك من طُلاطلة ومن ... ضرَسٍ فتلقم بعد ذاك الفوفا
يُغنيك عن مين الطبيب وسحله ... ما من جراه تخازم الحتروفا
قد أنبتت غضراء أرض سطوره ... روضًا وجنَّات تروق وريفا
فتشمّ منها عرف كل ربحلة ... دهساء يفتن حسنها الغطريفا
وترى الملعظة الشناط بجبها ... والفارض القرطاس والسرعوفا
ووراءها وأمامها مرمورة ... وغرانق ما أن تزال أنوفا
وإذا بدت لك من خلال حروفه ... ردح وثائر فاخطبنَّ رشوفا
فإذا عجزت عن المؤونة واستقلت ... وجدت في أعقابهن الهيفا
فاختر هداك الله ما تهوى ولا ... تتراخ عن أن تدرك الحرنوفا
غيري من الوصَّاف في ذا صنفوا ... لكنهم لم يحسنوا التصنيفا
إذ كان ما قالوه مبذولًا ولم ... يتقصَّ منهم واصف موصوفا
لكن كتابي أو أنا بخلاف ذا ... نكفي الحفيَّ الحدّ والتعريفا
لا عيب فينا غير أنك لا ترى ... ضوًا لنا في فننا وحريفا
فهو اليتيم المستحيل إخاؤه ... وهو الفريد فكن عليه عطوفا
الفضل لي ولصاحب القاموس إذ ... من لجه قولي غدًا مغروفا
حلبت به رأسي خلافًا للنسا ... عامًا وكل العام كان خريفا
لكن تولد في ٣ أشهر ... وحبا على عجل وشب لطيفا
لم أدرِ رجلته أو مخطته أو ... بصقته أو ألقته ثم كنيفا
عانيت فيه من الزجير أجازك ... المولى عناء لا يُكال جزيفا
وقطعت سرته على أهل الحجى ... وعلى اسمهم لا يبرحن موقوفا
ما كان من ظئر له عندي سوى ... فكري ومع ذا خلته مسروفا
قدمًا عليه توحمت نفسي ولم ... يك شوقها عن نحوه مصروفا
ورشحتُ لذَّات قبيل نتاجه ... حتى إذا باشرت عدت نشوفا
أولدت لي ولدين لا لك ثم ذا ... لك ثالثًا لا لي فَعُلْهُ القوفا
عهدي إلى ولديَّ أن يتحدَّيا ... أسلوبه وبدفتيه يطيفا
ليؤمناه من الحريق احتمي ... أحد عليه لكونه حريفا
إني بريء منهما أن يعدلا ... عنه ويتحذا عليه حليفا
من كان يرغب فيه فهو موفق ... أو لا فقد ضلَّ السبيل وايفا
في الليل يسمع منه غطغطة ... يطيب نعاسه بدوامها وحجيفا
1 / 2
ولرُبَّ نور ساطع يغدو إذا ... قابلته يومًا به مكسوفا
وكبير بطن ضاق عنه وفاتك ... ذي شِرَّة عنه يخيم ضعيفا
كالزئبق الفرار ينظره ولا ... يستطيع يمسك من قفاه صوفا
يهوي هويَّ الريح في الوادي إذا ... ما هيج ثم يسنم الشنعوفا
هو خير داحٍ للذي لم يرض من ... لعب الزمان ولهوه خذروفا
أن تتله يطربك حسن بُغامه ... أو تُلغه يسمعك منه عزيفا
فيه ترى في لبرد مشتى ثم أن ... ثارت خجوجاة السهام مصيفا
وإذا ثقلت من الطعام وغيره ... تلقى به من ثقلة تخفيفا
وإذا اتخذت حديقة فاغرس بها ... منه كليمات تزدك قطوفا
تغنيك عن نصب الخيال بها فلو ... أضحى شظاظًا لصحها لا خيفا
إني ضمنت لك الفدور فما ترى ... من بعده عزهًا ولا منجوفا
كلا ولا مستثقلًا نومًا ولا ... أرقًا ولا تشكو صدى وعجوفا
لا تقدمن على ركوب الصعب إن ... لم تتخذه صاحبًا ورديفا
حتى إذا تُعتعت أصبح عاصمًا ... لك أن تزل فتخطى الخرنوفا
إني لا علم والسداد يدلني ... إن الجناب يرى الأبيل مخيفا
فاخفه أنت بكل حرف باتر ... قد خط فيه يكفّ عنك كفيفا
هو حصرم في طرف من يغتابه ... ما زال أن ذكر اسمه مطروفا
وهو الحديد القاطع الماضي الذي ... يبري العظام ويحسم الشرسوفا
إن شئت تلبسه على علاته ... فاهنأ به أو لا فدعه نظيفا
ولقد أجزتك سفه أو لعقه ... أو أن تخف قيئًا فخذه مدوفا
لكن حذار من الزيادة فيه أو ... أن ترتأي استعماله محذوفا
إذ ليس فيه من محل قابل ... للحذف أو لزيادة تثقيفا
لوكان يعشق جامد لجماله ... لغدا الورى طرًا به مشغوفا
ولئن نزحت عن الأنام فإنه ... يمشي إليه حيث كان زحوفا
وإذا تخاصم كاذبان فلحية ... الأشقى يغدر شعرها منتوفا
حتى كأنَّ الشعر من لحييهما ... قطن الحشايا ناعمًا مندوفا
وحياة رأسك أن رأسي عارف ... إني به لن أستفيد رغيفا
كلا ولا أقطا ولا حشفا ولا ... خزّا على وتدي ولا كرسوفا
لكن بقرني حكة هاجت على ... إني أعالج مرة تأليفا
من كان يؤجر كي يؤلف خطبة ... فهو الخليق بأن يعد عسيفا
ما راح من قولي فخذه وما تجد ... من زائف فاتركه لي ملفوفا
لا بد أن تجد الصيارف مرة ... بين الدراهم درهمًا مزيوفا
ولربَّ دينار يجر إليك من ... تهوى بلحيته وليس مشوفا
لا يعلقن بزجاج عقلك ما ترى ... فيه من الصدأ القديم كثيفا
من كان في بلد لطيفًا طبعه ... يجد الغليظ من المحب لطيفا
لا ترفسن ما سرَّ من لأجل ما ... قد ساء بل لا تولهِ تأفيفا
إن المصنف لا يكون مصنفًا ... إلا إذا جعل الكلام صنوفا
أو ليس أن الضرب مثل الصنف في ... المعنى وقرع عصا إليه أضيفا
حاشاك أن تقضي عليّ تهافتًا ... من قبل أن تتحقق التوقيفا
فتقول قد كفر المؤلف فاحشدوا ... يا قوم صاحبكم أتى تجديفا
فتهيج أرباب الكنائس هيجة ... شؤمى فيخترطوا عليه سيوفا
بيني وبينك من صلات مودة ... ما يقطع التفسيق والتسقيفا
لا تزبئرّ إلى القتال ولا إلى ... الشكوى ولا تك بيننا قذِّيفا
إن كنتُ إحسانًا أتيت فدونك ... التحبيذ لي أو لا فلا تقذيفا
لا تشتمن أبي ولا أمي ولا ... عرضي ولا تك لي بذاك أليفا
إثمي على أنفي يناط مدلدلا ... ما أن يصيب من العباد أنوفا
ولربِّ فسيق اللسان مباذئ ... يغدو وقد فسق العفيف عفيفا
ونزيه نفس أن يزر ذا زوجة ... ويكون أن ضحكت له عتريفا
كلب الكواعب ليس يعدي غيره ... ودواؤه كعب يليه منوفا
ماذا على مهدٍ إلى إخوانه ... شيئًا ألذَّ من المدام طريفا
سهرُ الليالي محكمًا تفصيلهُ ... وهم رقود يحكمون جحيفا
أرأيت ذا كرم يردّ ... هدية ويسوم مهديها له تعنيفا
أو ليس أن الدهر مازحًا ... يهذي ويأتي المضحكات جنوفا
1 / 3
فأشتق من خرف الجنى ومن ... حصف تهي الأظفار منه حصيفا
دع عنك تعبيس الأسود وكن أخًا ... لأبي الحصين مراوغًا يهفوفا
من أضحك السلطان صوت ردامه ... فهو الذي في الناس عدَّ عريفا
تمت بهذا البيت فاتحتي وقد ... صيرته لبنائها تسقيفا
لا تقرأن من بعده شيئًا ولو ... كلفت حرفًا واحدًا تكليفا
فتكون قد أزلفت ثم تجاوزت ... بك رجلك اليسرى له تاريفا
إني أرى كالريح في أذنيك عرف ... نصيحتي راحت سدى وطليفا
الكتابُ الأوَّل
إثارة رياح
مه صه أسكت اصمت أنصت ايبَس أعقَم أسمع ائذن أصخ أصغ أعلم أني شرعت في تأليف كتيّبي هذا المشتمل على أربعة كتب في ليالي راهصة ضاغطة أحوجتني إلى الجؤار قائمًا حتى لم أجد لصُنبور أفكاري ما يسدّه عن أن يتبعق على ميزاب القلم في وجوه هذه الصحائف. فلما رأيت القلم مِطواعًا لأناملي والدواة مطواعًا للقلم في نفسي لا بأس إن أقفو القوم الذين بيضوا وجوههم بتسويد الطروس فإن كانوا قد أحسنوا فأنا أعدّ أيضًا من المحسنين. وأن كانوا قد أساءوا فلعل عدد كتبهم يحتاج إلى تكملة فيكون كتابي على كل حال متصفًا بالكمال. لأن ما كمل غيره كان جديرًا بأن يكمل نفسه. فمن ثم أتوقف فيما قصدته ولم أتحاشَ أن أودعه من الألفاظ الشائقة الرائقة والمعاني الفائقة الآفقة كل ما خفَّ على السمع، ولذَّ للطبع. مع عملي إنه لا يكاد مؤلف يعجب الناس جميعًا.
وكأني بمتعنت يقول في نفسه أو لغيره لو كان المؤلف أجهد قريحته في تأليف كتاب مفيد لا يستحق أن يثني عليه. لكني أراه قد أضاع وقته عبثًا بذكر ما لا ينبغي ذكره جينًا. وحنينًا بذكر ما لا يجدي نفعًا. والجواب عن الأول: ومحترسٍ من مثله وهو حارسُ. وعاد الحيْش يحاس. وحذ من جِذْع ما أعطاك. وشحمتي في قلعي. وأهتبل هبلك. وعين الرضى عن كل عيب كليلة. وعن الثاني: أربع على ظلعك. وأرق على ظلعك. وأرقًا على ظلعك. وقِ على ظلعك. وكأني بآخر يقول حديث خرافة يا أم عمرو. وجوابه وكم من غائب قولًا سليمًا. ثم كأني يحوقة عظيمة من الجلاذي والنهاميين والأنهمة والوففة والوفهة والوهفة والأبيلين والزرازرة والقمامسة وأمامهم الجاثليق الأكبر. وأمام هذا العسطوس الأعظم وهو يضجون ويعجبون ويجأرون وينعرون ويلجبون ويصخبون ويزأطون ويلغطون ويتقترون ويتوغرون ويتوعدون ويتهددون ويتذمرون ويتنكرون ويتنمرون ويتشذرون ويتشزرون ويتغذرون وينحمون وينهمون ويلغمون. فأقول لهم مهلًا مهلا إنكم قضيتم عمركم كله في حرفة التأويل فيما يضركم لو أوَّلتم ما تنكرونه في كتابي من أول وهله. وتمحلتم كما هو دأبكم لأن تجعلوا منه حسنًا ما يظهر قبيحًا ومستظرفًا ما يلوح من خلال عبارته فاحشًا. فإن أبا نواس قد أوجب عليكم ذلك مذ مئين من السنين بقوله:
لا تحظر العفو إن كنت أمرءًا ورعًا ... فإنّ حظركه بالدين إزراء
وبقوله:
كن كيفما شئت أن الله ذو كرم ... وما عليك إذا أذنبت من باسِ
إلا أثنتين فلا تقربهما أبدأ ... الشرك بالله والأضرار بالناس
فأما أن قلتم إن عباراته صريحة بحيث لا تقيل التأويل. فأقول لكم إنكم بالأمس كنتم تخطأون وتحضرمون وتهرأون وتلحنون وتلكنون وتغلطون وتوهمون وتعفكون وتلبكون وتلتكون وتلفتون وتعصدون وتخلطون وتخطلون وتهذون وتهذرون وتحصرون وتلخون وتلخلخلون وتعجمون وتجعمون وتقدمونوتلفون وتتبلتعون وتتلهيعون وتلغلغون وتلقلقون وتقلقلون وتترترون وتثرثرون وتحصرون وتفرفرون وتجمجمون وتمجمجون وتغمغمون وتمغمغون وتتغتغون وتثعثعون وتثغثغون وتبعبعون وتبغبغون وتوتغون وتضغضغون وتعيون وتفههون فمتى جاءكم العلم حتى فهمتموها.
وإن قلتم أن بعضها وهو السيئ مفهوم وبعضها غير مفهوم. قلت لعل ما لم تفهموه هو الحسنات التي تذهب السيئات فلا ينبغي لكم على أية حالة كانت تحرقوه. ولعمري لو لم يكن من شافع لقبوله وأجرائه عند الأدباء وعندكم آنستم أيضا مجرى كتب الأدب سوى سرد ألفاظ كثيرة من المترادف لكفى. بل فيه من ذكر الجمال وأهله أدام الله عزهن إعظامه وتقريظ مؤلفه حيا ثم تأبينه بعد مفارقته إياهن برغم أنفه.
1 / 4
على إني أعرف كثيرا من الوفهة الكرام المشهود لهم بالفضل بين الأنام لا يتحرجون من قولهم شيء ممجمج وشيء متدملك وشيء مفرَّم وشيء أزَيب وشيء مهدف وشيء قازح وبكبك. ومن ذكر الكعثب والكعثب والكعثم والجلهوم والعركوك والأكثم والأخثم والخشيم والحزنبل والدعكنة والجدجد والنيزج والبوص والنامة والبلغص والقلذم والأكبس والضراطميّ والحضر والهيدب والمحلوس والبوص والعضرط والعضارطي والخميش والجشماء والبداء والفشوش واللطعاء والمهلوسة والمرصوفة والمستودفة والجالقة والحارقة والخبوق والخفوق والغفوق والربوخ والمخربقة والسلقلق والشقآ والمتلاحمة والخجام والخجوم والأتوم والشريم والهوجل والمتكأ والحلقية والمرفوعة والمصوص والمنفاض والميراص والعضوض والمنخار والشفيرة والزخاخة والبخاخة والجخنة والشفلح والعنبلة والجليع ومن العلوز والقنب والنوف والخنتب والأيل والبيظ والثعرورين والحتار والأشعر والطبق والأسكتين والحسكلتين والعنتل والقحقح والمأنة والجعب والطرث والعكبز والمعجرم والعجارم والوبيل والفنجليس والفلطيس والحطاط والكوتعة والجوفان والمتك والحوقلة والكوشلة والقصعة والدلعة ومن الأقماد والتوتيد والأستعناد والتفشخ والشمذ والفهر والأفهار والوجس والنشنشة والاستخلاط والتشيط والهكاع والفخة والسغم والأكسال والعم والزجل والهقق والنيطل والعتر والطروح والعجيز والفنخر والاختضار والترفغ والأصفآد والعصد والحمق والتفعيل والتبازخ والعروة والأسواع والسباع والألهاط والعصد والرفغ والعفل والقرنة والكين والطؤطؤة ومن ذكر الأرزب والبزباز والفاعوسة والخرنوف والمشرح والغضارطي والمصوص والخاق والزردان والطنبريز والفلهم والقباب واللهوم والحجوم والمزخة والنغنغ والخشنفل والمعرنفط والمقرنفط والفوق والقوق والركوة والقحفليز والعفلق وغير ذلك من أدوات النصب ومن البنودة والجعبي والحذافة والنصب ومن البنودة والجعبي والحذافة والمحذفة والخوارة والخفاقة والعزاقة والمحسة والمحشة والخبنفثة والرماعة والصماري والرئم والطبيخة والحماء والعواء والعزلاء والجعماء والسحماء والقنقصة والفرقعة والصفارة والنبور والنباعة والنباغة والوباعة والجوانة والخوانة والصوانة والبرعث والبعثط وغير ذلك من أدوات الجزم ومن الآداف والبيزار والجميع والجعثوم والاذامي والحوقل والمطول والمطول والزلنقطة والخدرنق والسحادل والضبيز والعلعل والدوقل والقسطبينة والفنطيس والشاقول والقهبليس والعردل والقصطبير والجواجز والقزميلة والمتئر والدوسر والسمهدر وغير ذلك من أدوات الجر ومن ذح وذحا ودح ودحبي ورصع ورطأ وشفتن وشكز وضهز وطعز وطنح وعزط وعزلب وقرفط وقنطر وقسبر وقحطر وقمطر ولطز ولمج ولمذ ومشق ومتر ومهج ومعج ونيرج وزخزخ ودعظ. وكنت أحملق في وجوههم عند ذكرهم ذلك فلم أكن أرى عليها حمرة الخجل ولا صفرة الوجل بل كانت ناضرة مستبشرة مبتهجة مسفرة. فإن أبي المنكر إلا عنادًا وتقاضاني جدول أسمائهم قلت له هاك أوله يبتدئ بالألف وآخره بالياء. فاحسبوني إذًا وافهًا من هؤلاء.
ثم أن شرطي على القارئ ألا يسطر من الألفاظ المترادفة في كتابي هذا على كثرتها. فقد يتفق إن يمر به في طريق واحدة سرب خمسين لفظة بمعنى واحد أو بمعان متقاربة. وإلا قلا أجيز له مطالعته ولا أهنؤه به. على إني لا أذهب إلى الألفاظ المترادفة هي بمعنى واحد وإلا لسموها المتساوية وإنما هي مترادفة بمعنى إن بعضها قد يقوم مقام بعض. والدليل على ذلك إن الجمال مثلا والطول والبياض والنعومة والفصاحة تختلف أنواعها وأحوالها بحسب اختلاف المتصف بها فخصت العرب كل نوع منها باسم ولبعد عهدهم عنا تظنيناها بمعنى واحد. وقس على ذلك أنواع الحلي والمأكول والمشروب والملبوس والمفروش والمركوب. لا بل عندي ولا أخشى من أن يقال أولك عند أنه إذا كان اسمان مشتقين من مادة واحدة وكانا يدلان على معنى واحد كالخجوج والخجوجاة مثلا للريح الشديدة المرّ وإن يكون الاسم الزائد في اللفظ زائدا في المعنى أيضا. إن شئت أذعنت أولا فعاند.
1 / 5
هذا وأني قد ألفته وما عندي من الكتب العربية شيء أراجعه واعتمد عليه غير القاموس. فإن كتبي كانت قد فركتني فاعتزلتها، غير إن مؤلفة ﵀ لم يغادر وصفا في النساء إلا وذكره. فكأنه كان ألهم أن سيأتي بعده يغوص في قاموسه على جمع هذه اللآلئ في مؤلف واحد منتسق لتكون أعلق بالذهن وارسخ في الذكر.
ولولا إني خشيت غيظ الحسان عليَّ َلكنت ذكرت كثيرًا من مكايدهن وحيلهنّ ومحالهن لكني إنما قصدت بتأليف التقرب إليهنّ وترضيهن به. وإني آسف كل الأسف على أنهن غير قادرات على فهمه لجهلهنّ القراءة لا لعوص العبارة إذ لا شيء يصعب على فهمهن مما يؤول إلى ذكر الوصل والحب والغرام. فهن يستوعبنه ويتلقفنه من دون تلعثم ولا قصور ولا ترج وحسبي أن يبلغ مسامعهن قول القائل أن فلانًا قد ألف في النساء كتابًا فضلهن به على سائر المخلوقات. فقال إنهن زخرف الكون. ونعيم الدنيا وزهاها. وغبطة الحيوه ومناها. وسرور النفس ومشتهاها وعلق القلب. وقرة العين. وانتعاش الفؤاد. وروح الروح. وجلاء الخاطر. وتعلل الفكر. ولهو البال. وجنة الجنان. وأنس الطبع. وصفاء الدم. ولذة الحواس. ونزهة الألباب. وزينة الزمان.. وبهجة المكان والباءة بل أقول غير متحرج عرف الآلهة إذ لا يكاد الإنسان يبصر جميلة إلا ويسبح الخالق. بذكرهن يلهج اللسان. ولخدمتهن تسعى القدم. وتتحمل الأعباء. وتتجشم المشاق ويهون الصعب ويتجوع الصاب. ويقاسي الضر ولرضائهن يذل العزيز. ويبذل النفيس. ويذال المصون. وإن خلاق الرجل من دونهن حرمان. وفوزه خيبوز وهناؤه تنغيض. وأنسه وحشة. وشبعه جوع. وارتواؤه ظمأ. ورقاده أرق. وعافيته بلاء. وسعادته شقاوة. وطوبى له كالزقوم. والتنسيم كالغسلين. فإذا قدر الله بلوغ هذا الخبر المطرب سماع إحدى سيداتي هؤلاء الجميلات وسرت به وفرحت. ورقصت ومرحت. رجوت منها وأنا باسط يد الضراعة أن تبلغه أيضًا مسامع جارتها. وأملت من هذه أيضًا أن تطالع به صاحبتها حتى لا يمضي أسبوع واحد إلا ويكون خبر الكتاب قد ذاع في المدينة كلها. وكفاني ذلك جزاء على تعبي الذي تكلفته من أجلهن. إلا وليعلمن إني لو استطعت أن أكتب مديحهن بجميع أصابعي وأنطق به بكل من جوارحي لما وفي ذلك بمحاسنهن. فكم لهن علي من الفضل حين بدون في أفخر الحلل ومسن وبأحسن الحلي. ونظرن إليَّ شافنات. حتى أبت إلى حفشي وأنا أتعثر بأفكاري وخواطري. فما كادت يدي تصل إلى قلم إلا وقد تدفقت عليه المعاني وساحت على القرطاس. فأورثنني بين الناس ذكرًا وفخرًا. ورفعن قدري على قدر ذوي البطالة والفراغ. نعم أن من بينهن من نفست علي بطيفها في الكرى. ولكنها معذورة في كونها لم تكن تعلم إني أتكلف النوم. بعد أن رأت عيني من جمالها ما يبهر العقل ويبلبل البال.
فأما إذا تعنت عليّ أحد بكون عبارتي غير بليغة. أي غير متبلة بتوابل التجنيس والترصيع والاستعارات والكنايات. فأقول له أني لما تقيدت بخدمة جنابه في إنشاء هذا المؤلف لم يكن يخطر ببالي التفتازاني والسكاكي والأمدي والواحدي والزمخشري والبستي وابن المعتز وابن النبيه وابن نباتة. وإنما كانت خواطري كلها مشتغلة بوصف الجمال. ولساني مقيدًا بالإطراء على من أنعم الله تعالى عليه بهذه النعمة الجزيلة. وبغبطة من خوّله ﷿ عزة الحسن وبرثاء من حرمه منه. وفي ذلك شاغل عن غيره. على أني أرجو أن في مجرد وصف الجمال من الطلاوة والرونق والزخرفة ما يغني عن تلك المحسّنات استغناء الحسناء عن الحلي ولذلك يقال لها غانية. وبعد فإني قد علمت بالتجربة إن هذه المحسنات البديعية التي يتهور فيها المؤلفون كثيرًا ما تشغل القارئ بظاهر اللفظ عن النظر في باطن المعنى.
1 / 6
ولعمري انه ليس في هذا الكتاب شيء يعاب سوى وجدانك الفارياق فيه تارة يحشر في سرب الغواني. وتارة يدمق عليهن وهن آمنات في حجالهن أو في حديقة أو في زاوية على السرير. ولكن لم يكن لي بد من ذلك. إذ الكتاب موضوع على قص أخباره وعلم أحواله. فقد بلغني أن كثيراُ من الناس أنكروا وجود هذا المسمى فقالوا أنه من قبيل الغول والعنقاء. وبعضهم قال أنه قد ظهر مرة في الزمان ثم اختفى عن العيان. وذهب غير واحد إلى إنه مسخ بعد ولادته بأيام. ولم يعلم بأي صورة تلبس وإلى أي شكل استحال. وزعم قوم إنه صار من جنس النسناس. وقال غيرهم إنه صار من نوع الجن. وأثبت بعض إنه استحال امرأة. فإنه لما رأي أن المرأة أسعد حالًا من الرجل في هذه الدنيا المسماة دنيا كانت لا يبيت إلا هو جائر إلى ربه بالدعاء لأن يصيره أنثى. فتقبل الله ذلك منه وهو على كل شيء قدير. فرأيت والحالة هذه من بعض ما يجب عليّ أن أعرّف هؤلاء المختلفين فيه بحقيقة وجوه على ما فطر عليه. ما عدا التغيير الذي عرض له عن جهد المعيشة وسوء الحال ومقاساة الأسفار ومخالطة الأجانب والاحتكاك. وعلى الخصوص من تلفيع الشيب. والمجاورة من حد الشباب إلى سن الكهولة. فإذ قد علم ذلك فأقول كان مولد الفارياق في طالع نحس النحوس والعقرب شائلة بذنبها إلى الجدي أو التيس والسرطان ماشٍ على قرن الثور، وكان والده من ذوي الوجاهة والنباهة والصلاح مرحى مرحى إلا أن دينه ما كان أوسع من دنياهما وصيتهما أكبر من كيسهما برحى برحى وكان لطبل ذكرهما دويّ يسمع من بعيد. ولزوابع شأنهما عجاج ثناء يثور في الجبال والبيد. ولتكرير العفاة واعتشاء الوفود لديهما. تعطلت سبل دخلهما. ونزحت بئر فضلهما فلم يبق فيها إلا نزّازات يلقى فيها المخفق المحروم سدادا من عوز. فكانا يجودان به أيضًا من عوز السداد وهّ وه فلذلك لم يعد في طاقتهما أن يبعثاه إلى الكوفة أو البصرة ليتعلم العربية. وإنما جعلاه عند معلم كتاب القرية التي سكنا فيها ويح ويح وكان المعلم المذكور مثل سائر معلمي الصبيان في تلك البلاد في كونه لم يطالع مدة حياته كلها سوى كتاب الزبور وهو الذي يتعلمه الأولاد هناك لا غير أفّ أف وليس قولي إنهم يتعلمونه مؤذنا بأنه يفهمونه. معاذ الله. فإن هذا الكتاب مع تقادم السنين عليه لم يعد في طاقة بشر أن يفهمه غُط غط وقد زاده إبهامًا وغموضًا فساد ترجمته إلى اللغة العربية وركاكة عبارته حتى كاد أن يكون ضربًا من الأحاجي والمعمى رُط رط وإنما جرت عادة أهل تلك البلاد بأن يدرّبوا فيه أولادهم على القراءة من غير أن يفهموا معناه. بل فهم معانيه عندهم محظور تفّ تف وكما أنهم لا يفقهون معنى وحا وميم وقاف مثلًا. فكذلك لا يفهمون عبارة الكتاب المذكور إذا قرأوها طيخ طيخ.
1 / 7
والظاهر أن سادتنا رؤساء الدين والدنيا لا يريدون لرعيتهم المساكين أن يتفقهوا أو يتفقحوا. بل يحاولون ما أمكن أن يغادروهم متسكعين في مهامه الجهل والغباوة أع أع إذ لو شاؤوا غير ذلك لاجتهدوا في أن ينشئوا لهم هناك مطبعة تطبع فيها الكتب المفيدة سواء كانت عربية أو معرَّبة سر سر فكيف ترضون يا سادتنا الا عزة لعبيدكم الأذلة أن تربى أولادهم في الجهل والعمه عزوى عزوى وإن يكون معلموهم لا يعرفون العربية ولا الحط والحساب والتاريخ والجغرافية ولا شيئًا غير ذلك مما لا بدّ للمعلم من معرفته تعزى تعزى فكم لعمري من ملكات براعة وحذق من الله تعالى بها على كثير من هؤلاء الأولاد. غير أنه لفقد أسباب العلم وعدم ذرائع التأديب والتخريج طفئت جذوتها فيهم على صغر بحيث لم يمكن أن يستقبها بهم نتف التحصيل على كبر أوه أوه هذا وإنكم بحمد الله من المتمولين المثرين. لا يعجزكم أن تنفقوا كذا وكذا كيسًا على إنشاء مدارس وطبع كتب مفيدة أيه أيه فإن لبطرك الطائفة المارونية دخلا له وقع عظيم، وقدر جسيم، بحيث يمكنه أن يحبي به قلوب طائفته هذه التارزة التي لا هم لها في المنافسة والمباراة في شيء بين من سبقوهم إلى كل علم وفضل هيس هيس وإنما همهم أن يتعلموا بعض قواعد في نحو اللغتين العربية والسريانية لمجرد العلم بها فقط من دون فائدة آه آه إذ لم يعلم إلي الآن أن واحدًا منهم ترجم كتابا أو كراسة مفيدة في هاتين اللغتين ولا أن البطرك أمر بطبع كتاب لغة فيهما تغ تغ ولو إنه أنفق نصف دخله في كل سنة على تحصيل أسباب العلم بدل هذه الولائم والمآدب التي يهيئها لزواره. أو لو كان كل من الأمراء والمشايخ الكرام ينفل شيئا معلوما في كل سنة لأجل هذه المصلحة الخيرية أو لو بعث من قبله إلى البلاد الإفرنجية وكلاء يجمعون من ذوي الخير والإحسان فيها مبلغا يخصصه بما نحن بصدده. لأحمد كل من في الشرق والغرب فعله جنح جنح ولكن إذا تعنى أحد سادتنا هؤلاء لأن يبعث إلى إخوانه الإفرنج حنا أو متى أو لوقا لجمع المال فإنما يبعثه لبناء كنيسة أو صومعة آح آح مع أن الإنسان مذ يولد إلى أن يبلغ اثنتي عشرة سنة لا يمكنه أن يدرك شيئا على حقيقته من جهة الكنيسة والصومعة ويمكنه في خلال ذلك أن يتعلم ما يفيده في مدرسة أو كتاب ثع ثع فهل تعدونني يا سادة بإنشاء مكاتب وطبع كتب حتى لا أطبل عليكم هذا الفصل. فإن بقلبي منكم لحزازات حاكة وبصدري عليكم ملامات صاكة أخ أخ لأن خليصي الفارياق في دولتكم السعيدة لم يمكنه أن يتعلم في قريته غير الزبور وهو كتاب حشوه اللحن والخطأ والركاكة اخ اخ لأن معربه لم يكن يعرف العربية وقس عليه سائر الكتب التي طبعت في بلادكم وفي رومية العظمى هع هع ومعلوم أن الغلط إذا تأصل في عقل الصغير شب معه ونمى فلم يعد ممكنا بعد قلعه.
فهل من سبب لهذا الشين والعيب سوى إهمالكم وسوء تصرفكم في السياسة المدنية والكنائسية أفواه أفواه.
أتحسبون إن الركاكة من شعائر الدين ومعالمه وفرائضه وعزائمه وإن البلاغة تفضي بكم إلى الكفر والإلحاد. والبدعة والفساد مطغ مطغ أم حسبتم أن تلك الأبيات العاطلة قد أفحمت ذلك المسلم العالم عن المجادلة والمناضلة يع يع إما بعروقكم دم يهيجكم إلى حب الكلام الجزل الفخم. وإلى البلاغة والبلة. ونق العبارة على موجب القواعد المقررة. والإفصاح عما يخطر ببالكم دون الحشو المخل. والاعتراض المملّ. والتعقيد المعلّ. والإخلاء المسل. وقولكم في جوز الجملة في جوز الجملة الخ. وجعلكم الفعل الثلاثي رباعيا. وبالعكس. واستعمالهم ما يتعدى منه بالباء متعديا بفي وبالعكس. وأجرائكم المتعدي لازما وبالعكس. والمهموز معتلا وبالعكس وعدم فرقكم بين اسمي الفاعل والمفعول. فتقولون هم محسودون مني أي حاسدون لي وما أشبه ذلك قه قه وليس كتابي هذا درة الثين في أوهام القسيسين حتى أستوعب فيه ذكر أغلاطكم وأوهامكم ايحي ايحي وإنما المفصود من ذلك أن أبين لكم أن أدمغتكم قد سقيت اللحن والركاكة من وقت ذهابكم إلى الكتاب وقراءتكم فيه كتاب الزبور إلى أن تصيروا كهلا ثم شيوخًا دح دح وإنه ما دمتم على هذه الحال فلن يرجى لكم من ابلال ويب ويب.
1 / 8
ثم أن الفارياق أقام عند معلمه ريثما ختم الكتاب المذكور. وبعد ذلك أوجس منه العلم أن يربكه في مسائل تصعب عليه فينفضح بها. فأشار علي والده بأن يخرجه من الكتاب ويشغله بنسج الكتب في البيت به به فلبث على هذه الحالة مدة طويلة فاستفاد منها ما أمكن لمثله أن يستفيد من تجويد الخط وحفظ الألفاظ بَدْ بد وكان أهل البلاد يفضلون حسن الخط على كل ما تصنعه اليد. فعندهم إن من يكتب خطًا حسنًا هو الذي أفق بين أقرانه في الفضل. ومع اشتهار ذلك فلم يكن حاكم البلاد يستخدم من الكتاب إلا من بذأت العين خطه وعاف الذوق السليم كلامه عيط عيط أشعارا بأن الخط لا يتوقف إلا على الحظ. وإن إدارة لا تفتقر إلى تهذيب الكلام. تع تع وإن كثيرا قد نالوا المراتب السامية والمناصب السنية وهم لا يحسنون توقيع اسمهم الشريف حس حس غير أن الفارياق لم يكن قرير العين بهذه الحرفة. إذ كان يعتقد أن الرزق الذي يأتي كشق القلم لا يكون إلا ضيقا وي وي نعم أن كثيرا من الناس قد نالوا العيش الواسع الهني. والخير المتتابع الوفي. من مورد هو بالنسبة إلى شق القلم رحب لكنه بالنسبة إلى شرههم وسرفهم ضيق واه واه غير أن الفارياق وقتئذ كان غرًا لا تجربة له ولا خبرة فكان يحكم على العبيد بالقريب. ولا شيء أقرب إلى عين الكاتب من لسان قلمه وعارض قرطاسه. أو أدنى إلى قلبه من الكلام الذي يكتبه واللبيب من قنع بالحرفة التي يتعاطاها ولم يشق عليه أمت الشق ولم يشرئب إلى ما ليس يحسنه شع شع.
انتكاسة حاقية وعمامة واقية
قد كان من طبع الفارياق كما هو دأب جميع الأحداث أيضا يحاكي في الزي والأطوار والكلام من كان متميزا فيعصره بالفضل والدراية. وإنه رأى ذات يوم قرزاما معتما بعمامة كبيرة مدورة. وكان هذا القرزام يحسب وقتئذ من فحول الشعراء فأحب الفارياق أن يكون له مثل هذه العمامة على صغر رأسه. فكان إذا مشى يميل رأسه منها يمنة ويسرة كالقاضي الذي يخرج في الأسواق بعد صلوة الجمعة ويسلم على الناس. واتفق أن أباه سار مرة إلى دار الحاكم واستصحبه معه وأركبه مهرة له. وكان هو راكبًا حصانا. فمكثا هناك أيامًا. فعن للفارياق يوما من الأيام أن يركض المهرة في الميدان وكان الحصان مربوطا في جانب. فأجرى المهرة نصف شوط حتى إذا قابلت مربط أليفها التفتت إليه كالمشيرة إن فارسها غير جدير بركوبها بين جياد الأمير. فما كان من الفارياق إلا أن سقط على أم رأسه. وأقبلت المهرة تجري إلى الحصان وغادرته مجندلا على الجدالة. ولو كان فارسا مجيدا لما تركته على تلك الحالة بل كانت تنتظره حتى يقوم.
1 / 9
ثم أنه قام بعد ذلك يحمد الله على كبر عمامته فإنها هي التي وقت رأسه عن إحدى الشجات العشر وهي القاشرة الحارصة الباضعة الدامية المتلاحمة السمحاق الموضحة الهاشمة المنقلة الآمة الدامغة. ولكنه قام محقوا ويومئذ عرف إن لكبر العمامة فضلا ومزية. وظن أن اتخاذ العمائم الكبيرة عند أهل بلاده إنما هي لوقاية رؤوسهم فقط لا لتحسين وجوههم. فإن العمامة الضخمة تخفي محاسن الوجه وتشوه الوجه الصغير فضلا عن كونها توجع الرأس وتمنع صعود الأبخرة من مسامه كما نص عليه الساعور الأكبر. فإن قيل إذا كان سبب اتخاذ العمائم الكبيرة إنما هو لوقاية الرؤوس لا للزينة والتحسين فمال بال الذين يرقدون ليلا يتعممون. فهل يخافون أن تتدحرج رؤوسهم عن مصادغهم فيسقطوا في مهواة في بيتهم. مع إن فرشهم تكون على الأرض. قلت أن منشأ هذه العادة هو أن نساء تلك البلاد يتخذون في رؤوسهن هذه القرون التي يقال لها هناك طناطير. وهي تكون من فضة أو ذهب في طول الذراع وغلط الرسغ. فإذا بات الرجل مع امرأته حاسر الرأس أو كان على رأسه غطاء رقيق لم يأمن أن تنطحه بقرنها على قرنه فتمنيه بإحدى الشجاج المذكورة. فإن أبيت إلا اللجاجة وقلت ما سبب هذه القرون الحسية. هل هي دليل على التذكير بالقرون المعنوية عند مخالفة الرجل لامرأته. أو عند تقتيره عليها أو أجفاره عنها. أو هي من قبيل الزينة أو من بطر النساء وشرهن بحيث إذا شممن رائحة الأيسار من أزواجهن رأين أن كل مجس من أجسامهن قمين بالحلي والزينة. إذ كن يعتقدن أن المستور منها عن عيون الناس غير مستور عن عيونهن وعيون بعولتهن. وإن كان في المسألة خلاف عظيم، وتحليل وتحريم. وإن في التزين بحلي غير ظاهر للذة عظيمة. فإن مجرد العلم بإحراز شيء ثمين يسر صاحبه. كما لو أحرز إنسان كنزًا في حرز محجوب فإنه يفرح به من غير أن ينظر إليه. قلت إما التذكير بالقرون المعنوية فغير مظنون في نساء تلك البلاد لكونهن من ذوات العرض والتصاون. ولا سيما نساء الجبل. وفضلًا عن ذلك فإن هرواة الزوج ومقامع أهله وأهل امرأته وعيون الجيران أيضًا تمنعها عن الاتصاف بالصفة الزوجية التامة. أما في المدن فإن هذه الصفة أقوى وأفشى. وإنما كان اتخاذ هذه القرون في الأصل مناطًا للبراقع. وكانت في مبدأها صغيرة قصيرة ثم طالت وكبرت بطول الزمن وكبر الدينار. وكلما زاد إيسار الرجل وماله زاد قرن امرأته طولا وضخامة.
وهنا فائدة لا بد من ذكرها، وهي أن لفظة القرن من الألفاظ التي اشترك فيها جميع اللغات كالصابون والقطّ والمزج وغيرها. وقد شهرت عند جميع المؤلفين بأنها كناية عن كذا وكذا من طرف زوجها. إلا عند المؤلفين من اليهود فإن الصفة القرنية في كتبهم من الصفات الحميدة. ولذلك فكثيرا ما تسمع في كتاب الزبور ارتفع قرني، وأنت رافع قرني وأني أنطح بقرني وما أشبه ذلك. وفي كلا الاستعمالين غموض وإِبهام. أما غموض استعمال القرن عند المؤلفين من غير اليهود كناية عن خيانة المرأة زوجها فلان هيئة القرن على عضو مخصوص من أعضاء الإنسان. وحقيقته أيضًا لا تدل على حيوان مخصوص. فإن الثور والوعل والتيس والكركدن في ذلك سواء، ولفظه كذلك غير مشتق من فعل يشير إلى خيانة أو ضمد.
فما علة هذا الاستعمال، وقد استفتيت في هذه المسألة المشكلة كثيرًا من المتزوجين المجرذين. فكلهم كان يتخيف ألوانًا عند سؤالي له. ويجمجم في كلامه ويقوم من عندي وقد خجل ووجم. فإن فتح الله الآن على أحد ممن يطالع كتابي هذا في فهم حقيقة ما يراد من هذا الحرف عرفًا واصطلاحًا. وفي بيان سبب استعماله كناية عن الضمد فليتفضل بالجواب منةً وإِحسانًا. فأما استعماله من مؤلفي اليهود كناية عن العزة والقوة والمنعة والغلبة فإنه يرد عليه ما ورد على الأول من أن كثيرًا من الحيوانات قد اشترك فيه. ومنها ما هو غير ذي قوة ولا بأس. فأنظر اختلاف الناس في لفظة واحدة ومعنى واحد.
أما العمامة، فإن اشتقاقها فيما أرى من عم بمعنى شمل لأنها تعم الرأس وهي على أشكال مختلفة. فمنها الحلزوني، والكعكي والإطاري، والمكوري، والمقوّري، والقهقوريّ، والقرطلي والقبعلي. وكلها على أصنافها أحسن من هذه الأجران التي تلبسها رؤساء المارونية في الدين فلينظروا وجوههم في مرآة جلية.
نوادر مختلفة
1 / 10
كان للفارياق ارتياح غريزي من صغره لقراءة الكلام الفصيح وإمعان النظر فيه ولالتقاط الألفاظ الغريبة التي كان يجدها في الكتب: فإن أباه قد أحرز كتبًا عديدة في فنون مختلفة، وكان أي الفارياق يتهافت منذ حداثته على النظم من قبل أن يتعلم شيئًا مما يلزم لهذه الصنعة. فكان مرة يصيب ومرة يخطئ، مع اعتقاده إن الشعراء أفضل الناس وأن الشعر أجل ما يتعاطاه الإنسان. فقرأ يومًا في بعض الأخبار عن شاعر كان في حداثته أبله مغفلًا، ثم صار أمره إلى أن نبغ فينظم القصائد المطولة وأجاد، فما حكي عنه أنه سكر يومًا فقعد في نحو ناموس وجعل يخطب منه خطبة أبي العِبَر طرد طبك طلندي بك يك نك من البلوعة. وأنه أراد يومًا أن يتسور حائطا ليتناول من بعض الثمر فوقع في فخ كان نصبه صاحب البستان للحيوانات.. وإنه قال يومًا لأمه إن عند فلان خادمة نظيفة غسلت اليوم باب دارها فجاء أسود يلمع. وإنه رأى يوما صبيًا قد قلع أحد أضراسه فسار واقترض درهمًا وقال للحجام اقلع ضرسي أنا أيضًا فإنه غير قاطع في الأكل. ولعل ينبت لي في مكانه ضرس أحد منه. وقيل له يوما قد دونت عنك حكايات من حمقك كثيرة فقال بودي لو أن أحدًا يقرأها علي لأضحك ومرض أخوه يومًا فقال أبوه لزوجته قد أضره الطعام الذي أكله أمس. فقال نعم قد أضر الأكل والخادمة معًا. فقال أبوه ما دخل الخادمة هاهنا. فقال لعلها أعطته ما لم يحب. ورأت أمه على ثيابه دمًا فقالت له ما هذا الدم. قال قد وقعت فجرى دمي وهو أحسن. فقد يقال من وقع وجرى منه دم صح وتقوى. وجرح يده بسكين فرمى بها وقال هذي السكين لا تساوي شيئًا. فقال أبوه لو كانت كذلك لما جرحت يدك فقال كل إنسان يجرح يده في الدنيا سواء بسكين أو غيرها. وقال مرة قد رأيت في السوق جبنا أبيض كالزفت. وقيل له لم لا تغسل يدك أغسلها فتعود وسخة في الحال. ولست أقدر على تنظيفها لكون دمي وسخًا. ورأى ذات يوم رجالًا مصلوبين فقال لأمه يا أم إذا عاشت هؤلاء الرجال أيضًا أفيقدر الذين صلبوهم على صلبهم مرة أخرى. وكان قوم يسألون عن منزل شخص فقال أنا أعرف مقرّه. قيل كيف عرفته. قال قد رأيت الرجل يمشي في السوق على رجليه. وقال يومًا من الثمانية إلى التسعة يمضي الوقت أسرع من الستة إلى السبعة. وقيل له أتحب اللحم أكثر من السمك قال أظن أني أحب هذا أكثر. وقال له أبوه إذا كنت تغيب عنا أفتحسن أن تكتب لنا كتابًا. قال نعم أكتبه وأجيء به أوصله إليكم. وسمع أباه يثني على حزٍ اشتراه وكان به فرحًا. فقال قد كانت ساعة سعيدة إنكم لم تشتروه. ورأى أباه يكتب كتابًا فقال له هل تستطيع يا أبت أن تقرأ ما تكتبه. فقال له كيف لا وأنا الذي كتبته. فال أما أنا فلا أستطيع. ورأى أباه يتأسف على طير فقده. فقال له بارك الله في الساعة التي طار فيها. فقال له يا أحمق إنا نتأسف على فقده قال له ولم لم تبنِ له دارًا. قال أو يُبني للطائر دار. قال إنما أعني عودين يجعلان من هنا وهناك. ووصف مرة حيوانات رآها فقال ورأيت أيضًا خنزيرًا أكبر مني وشكا وجعًا في رجله فقال ليت هذي الرجل تبلى. وكان أبوه يفسر له معنى أنقذ بأن قال له إذا وقع أحد في النار مثلًا وذهبت وأخرجته منها فلذلك هو الإنقاذ. فال ولكنه قد احترق فكيف أنقذه. وعلى فرض إني وضعت هذا السفود في النار ثم أحرجته منها أفيكون ذلك أيضًا إنقاذًا. وفسر له يومًا آخر معنى يلوم فقال إذا أبطأ عليك شخص في شيء وقلت له لِمَ تكاسلت فذلك يكون لومًا. فقال وأقول له أيضًا لمَ كبرت لِم صغرت لِم قصرت. ولامته أمه على نحره عند الكلام فقال لها ألا لا تلوميني ولكن لومي روحي. وأراد أبوه أن يخرج في يوم ماطر ثم عدل خوفًا من المطر. فقال لأمه يا أماه من عمّ الله أنا لم نخرج اليوم فإن الهواء كان طيبًا. واشترت له أمه ثوبًا فصلته قال لها أو يزول لون هذا الثوب. قالت لا أدري. قال أرجو أن يزول فلعله يصير أحسن. وقالت له أوان الشتاء وهو لابس قميصًا فقط البس ثوبك فوق القميص. فقال لها لا لأني أبرد به أكثر. ولامه أبوه على قراءته بصوت صلق فقال له لم هذا الصلق في القراءة قال لا أقدر أن أصرخ أكثر. وخفي عليه يومًا معنى الزيارة فقالت له أمه إذا سرت اليوم إلى السيدة فلانة لأنظرها فقد زرتها. قال قد فهمت إنك تسيرين إليها كي تخدعيها. وقالت له أمه إن فلانة التي تحسن إليك
1 / 11
قد ماتت فسكت ساعة ثم قال. قد حزنت عليها كما حزنت على موت أمي. الله يبعثها إلى الجنة هي وزوجها حالًا. وقال يومًا لوالده أن معلمنا اليوم قد أشترى قضيبًا ليضرب به الأولاد ولكنهم يغضبونه عمدًا حتى يضربهم به فينكسر فأستريح أنا أيضًا. وقال لأمه وقد مرضت إذا جئناك بالطبيب ولم يشأ الله أن يشفيك فما الحاجة إلى دواء. لها مرة أخرى استعملي هذا الدواء فلعلك تمرضين. وأراد يومًا أن يوقد النار فقال أردت أن أطفئها فما انطفأت. وقالت له أمه سر إلى فلانة وقل لها لأي شيء تخافين من أمي إنما هي بشر من بني آدم مثلك. فقال أقول لها تقول لك أمي لأي شيء تنفرين منها إنما هي من بني الحيوانات مثلك. وقال مرة في شيء أعجبه تبارك الله من كل عين. وقيل له يومًا أن فلانًا يريد أن يأخذك إلى مدرسته ليلمك. فقال بعثه الله إلى الجنة قال له أبوه أتريد أن تميته. قال فكيف أقول إذًا. قال أطال الله عمره. قال طوله الله. وقال لأمه أتعطينني الليلة من تلك الحلواء. فقالله أن عشنا إلى الليلة. قال نحن نعيش إلى غد فكيف لا نعيش إلى الليل- انتهى.
فطالع بذلك أحد الألباء في بلاده وقال له قد ظهر لي أن هذا الكلام أبله مأموه. أو مدله توه. أو مسمه مسبوه. أو عمه مشدوه. أو نمه معتوه. فكيف صار بعد ذلك شاعرًا. فقال له يحتمل أن كلامه هذا كان قد تعمده ليضحك به أبويه. أو أنه كان بليد البادرة ولكنه حديد الفاكرة. فإن من الناس من يدهش للسؤال فلا يكاد يجيب إلا خطأ. فإذا أعمل فكرة في خلوة أحسن كل الإحسان. أو أنه قصد بذلك أن يكون نبها مشهورًا بين الناس ولو بحماقة ورقاعة. فإن أكثر الناس يحاول الشهرة بأي وجه كان. فمنهم من يتعاطى الترجمة للكتب والتعليم وهو لا يدري شيا. ولكنه يفرح بأن يضع اسمه في أول الكتاب وبأن يحشيه بعبارات ركيكة وأقوال سخيفة من عنده أو بأن يروي عنه فيقال فلان كذا وكذا ويكون قوله خطأ وهذرًا. ومنهم من يتربع في صدر المجلس بين إخوانه وإقرانه ويطفق يحكي لهم حكايات عن بلاد بعيدة ويخلط كلامه ببعض ألفاظ تعلمها من لغة العجم. فيقول لهم مثلا صان فاصون. وباردون موسيو. ودنكوي. وفاري ول. إشارة إلى إنه أطال السياحة في بلاد فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وتعلم لغاتهم وهو يجهل لغته التي نشأ عليها. ومنهم من يتخذ له عمامة كبيرة يضاهي بها بعض العلماء. فإن كبر العمامة يدل على كبر الرأس. وكبر الرأس يدل على جودة العقل وصواب الرأي. ومنهم من يتكلف محاكاة لهجة ما ممن عرفوا بالفصاحة فتراه يتشدف ويجعم ويستعمل ألفاظا ًفي غير محلها.
وبعد فلا ينبغي أن يكون الشاعر عاقلًا أو فيلسوفًا. فأن كثيرًا من المجانين كانوا شعراء. أو كثيرًا من الشعراء كانوا مجانين. وذلك كأبي العبر وبهلول وعليان وطويس ومزبد. وقد قالت الفلاسفة إن أول الهوس الشعر وأحسن الشعر ما كان عن هوس وغرام. فأن الشعر العلماء المتوقرين لا يكون إلا مكرزمًا.
1 / 12
فلما سمع الفارياق ذلك زهد في الشعر ورغب عنه إلى حفظ الألفاظ الغربية لكنه لم يلبث أن رجع إلى خلقه الأول. وذلك أن أباه أخذه معه إلى بعض القرى البعيدة ليجبي المال المضروب على سكانها إلى خزنة الحاكم. فأنزله أهلها منزلًا كريمًا. وكان بالقرب من منزله جارية بديعة الجمال فجعل الفارياق على صغره ينظر إليها نظر المحب الراني جريًا على عادة الأغرار من العشاق. من أنهم يبتدئون العشق في جاراتهم استخفافًا للطلب واستشفاعًا بالجارية. كما أن عادة الجارات تهنيد جيرانهن وتغميرهم إشارة إلى إنه لا ينبغي البحث عن الطبيب البعيد إذا أمكن التداوي عند القريب. غير أن المحنكين في الحب يبعدون في الطلب ويرودون أنزح منتجع. لأنهم لما جعلوا دأبهم وديدنهم إشباع النفس من هواها كان عندهم السعي في ذلك فرضًا واجبًا. ووجدوا في الإبعاد والنصب لذة عظيمة. إذ من فتح فاه رجاء أن تتساقط الأثمار فيع لم يعدّ إلا مع العاجزين. والحاصل أن الفارياق هوى جارته لأنه كان غرًا. وإنها هي استهوته وأطعمته لكونها جارة. ولأن منزلته من حيث كونه مع أبيه كانت تميل الناس إليه. غير أن مدة إقامته هناك لم تطل. وأضطر إلى الرجوع مع أبيه وقد بقي كلفًا بالجارية. فلما حان الفراق بكى وتحسر وتنفس الصعداء. ونخره الوجد لأن ينظم قصيدة يعبر بها عن غرامه فقال من جملة أبيات.
أفارقها على رغم وأني ... أعادر عندها والله روحي
وهي أشبه بنفس شعراء عصره الذين يقسمون أيمانًا مغلطة بأنهم قد عافوا الطعام والشراب شوقًا وغرامًا. وسهروا الليالي الطويلة وجدًا وهيامًا. وإنهم ناسمون وقد ماتوا وكفنوا وحنطوا ودفنوا. وهم عند ذلك يتلهون بأي لهوة كانت. ثم أنه لما أطلع أبوه على تلك البيات الفراقية لامه عليها ونهاه عن النظم. فكأنما كان قد أغراه به. فإن من طبع الأولاد في الغالب الخلاف لما يريد منهم آباؤهم ثم أنه فصل من تلك القرية حزينًا كئيبًا متيمًا مفتونًا.
شرور وطنبور
قد كان أبو الفارياق آخذًا في أمور ضيقة المصادر. غير مأمونة العواقب والمصاير. لما فيها من إلقاء البغضة بين الرؤس. وشغْب أهل البلاد ما بين رئيس ومرؤوس. فقد كان ذا ضلع مع حزب من مشايخ الدروز مشهور بالنجدة والبسالة والكرم. غير أنهم كانوا صفر الأيدي والأكياس والصندوق والصوان والهميان والبيوت. ولا يخفى أن الدنيا لما كان شكلها كرويًا كانت لا تميل إلى أحد إلا إذا استمالها بالمدوَّر مثلها وهو الدينار. فلا يكاد يتم فيها أمر بدونه. فالسيف والقلم قائمان في خدمته. والعلم والحسن حاشدان إلى طاعته. ومن كان ذا بسطة في الجسم وفضلٍ في المناقب فلا يفيد طوله وطوله بغير الدينار شيًا. وهو على صغر حجمه يغلب ما كان كبيرًا ثقيلًا من الأوطار ولُبانات النفس. فالوجوه المدوَّرة خاضعة له أيّان برز. والقدود الطويلة منقادة إليه كيفما دار والجباه العريضة الصليتة مكبَّة عليه والصدور الواسعة تضيق لفقده.
1 / 13
فأما ما يقال من أن الدروز هم من ذوي الكسل والتواني وإنهم لا ذمة لهم ولا ذمام فالحق خلاف ذلك. أما وسمهم بالكسل فأحرى أن يكون ذلك مدحًا لهم. فإنه ناشئ عن القناعة والزهد. غير أن الصفات الحميدة التي يتنافس فيها الناس متى جاوزت الحد قليلًا التبست بنقيضها. فالإفراط في الحلم مثلًا يلتبس بالضعف. وفي الكرم يلتبس بالتبذير. وفي الشجاعة بالتهور والمغامرة. لا بل الإفراط في العبادة والتديّن يلتبس بالهوس والخبال. هذا ولما كانت الدروز في القناعة إذ لا ترى من بينهم أحدًا يقتحم القفار ويخوض البحار في طلب الأزاء وفي التأنق في الملبوس والمطعوم ولا من يُسَفّ للأمور الخسيسة ويدنق فيها. أو من يبشر الصنائع الشاقة ظن فيهم الكسل والتواني. ومعلوم أنه كلما كثر شره الإنسان ونهمُه، كثر نصبه وكده وهمّه. فالتجار من الإفرنج على ثروتهم وغناهم أشقى من فلاحي بلادنا. فنرى التاجر منهم يقوم على قدميه من الصباح إلى الساعة العاشرة ليلًا. وأما أن الدروز لا عهد لهم ولا ذمة فإنما هو محض افتراء وبهتان. إذ لم يعرف عنهم إنهم عاهدوا بشيء ثم نكثوا به دون أن يحسّوا من المعاهد إليه غدرًا. أو أن أميرًا منهم أو شيخًا رأى امرأة جاره النصراني تغتسل يومًا فأعجبته بضاضتها وبتيلتها وبوصها. فبعث إليها من تملق لها أو غصبها. وأنت خبير بأن كثيرًا من النصارى عائشون في ظلهم. ومستأمنون في حماهم. وأنهم لو خُيّروا أن يتركوا مستأمنهم هذا ليكونوا تحت أمن مشايخ النصارى لأبوا. وعندي أن من كان يرعى حرمة الجار في حرمته كان خليقا بكل خير. ولم يكن ليخونه في غيرها. فأما ما جرى من التحزب والتألب بين طوائف الدروز وغيرهم فإنما هي أمور سياسية لا تعلق لها بالدين. فبعض الناس يريدون هذا الأمير حاكما عليهم وبعضهم يريد غيره.
وكان أبو الفارياق ممن يحاول خلع الأمير الذي وقتئذ واليًا سياسة الجبل. فانحاز إلى أعدائه وهم من ذوي قرابته فجرت بينهم مهاوش ومناوش غير مرة. وآل الأمر بعدها إلى فشل أعداء الأمير. ففروا إلى دمشق يلتمسون النجدة من وزيرها فوعدهم ومناهم. وفي تلك الليلة التي فروا فيها هجمت جنود الأمير على وطن الفارياق ففر مع أمه إلى دار حصينة بالقرب منها لبعض الأمراء.. فنهب الناهبون ما وجدوا في بيته من فضة وآنية ومن جملة ذلك طنبور كان يعزف به أوقات الفراغ. فلما إن سكنت تلك الزعازع رجع الفارياق مع أمه إلى البيت فوجداه قاعا صفصفا.
ثم رد الطنبور عليه بعد أيام. فإن من نهبه لم يجد في حمله منفعة ولم يقدر أن يبيعه إذ العازفون بآلات الطرب في تلك البلاد قليلون جدًا. فأعطاه لقسيس تلك القرية كفارة عما نهب. فرده القسيس على الفارياق.
1 / 14
وكأني بمعترض هنا يقول ما فائدة هذا الخبر البارد. قلت أن وجود الطنابير في الجبل عزيز جدًا كما ذكرنا. فإن صنعة الإلحان والعزف بالملاهي يسم صاحبها بالشين. لما في ذلك من التطريب والتصبي والتشويق. والقوم هناك يغلون في الدين ويحذرون من كل ما يلذ الحواس. لذلك لا يشاءون أن يتعلموا الغناء والعزف بإحدى آلات الطرب أو يستعملوا في معابدهم وصلواتهم كما تفعل مشايخ الإفرنج خشية أن يفضي بهم ذلك إلى الإلحاد. فعندهم إن كل فن من الفنون اللطيفة كالشعر والإيقاع مثلا والتصوير مكروه. ولكن لو أنهم سمعوا ما يتغنى به في كنائس مشايخهم المذكورين من الموشحات أو ما يعزف به على الأرغن من اللحون التي ولع الناس بها في الملاعب والمراقص ومحال القهوة استجلابًا للرجال والنساء، لما رأوا في الطنبور إثمًا. فإن الطنبور بالنسبة إلى الأرغن كالغصن من الشجرة وكالفخذ من الجسم. إذ لا يسمع منه إِلا طنطنة وفي الأرغن طنطنة ودندنة وخنخنة ودمدمة وصلصلة ودربلة وجلجلة وقلقلة وزقزقة ووقوقة وبقبقة وفقفقة وطقطقة ودقدقة وقعقعة وفرقعة وشخشخة وجرجرة وغرغرة وخرخرة وقرقرة وبربرة وطبطبة ودبدبة وكهكهة وقهقهة وبعبع وبعبعة وزمزمة وهمهمة وحمحمة وغطمطة وتأتأة ودأدأة وضأضأة ويأيأء وقأقأء وصهصلق وجلنبلق وغطيط وجخيف وفحيح وحفيف ونشيش ورنين ونقيق وطنين وعجيج وأرير ودوي وخرير وأزيز وهرير وصريف وصرير وشخب وصي وموا وغاق غاق وغق غق وطاق طاق وشيب شيب ومي ميء وطيخ طيخ وقيق قيق وخازباز وخاق باق. فإين هذا كله هداك الله من طن طن. فإن قيل إن الرغبة عن العزف به إنما هو لكونه يشبه الإلية. قيل فما بال النساء يدخلن الكنائس وعلى رؤوسهن هذه القرون الفضة وهي تشبه فنطيسة الخنزير أجلّك الله عن ذكره. وفنطيسة الخنزير أجلك الله عن ذكره تشبه كذا وكذا. فقد تبين لك إن اعتراضك غير وارد. وإن ذكر الطنبور كان في محله. فإن أبيت إلا العناد وتصديت لأن تخطئني وتعقبني بزلة وبغير زلة. وزمت أن تبدي للناس براعتك في الانتقاد عليّ أمسك عن إتمام هذا الكتاب. ولعمري لو إنك علمت سبب شروعي فيه وهو التنفيس عن كربك وتسلية خاطرك لما فتحت فاك عليّ بالملامة في شيء فقابل الإحسان أصلحك الله بالإحسان وأصبر عليّ حتى أفرغ من غزل قصتي. وبعد ذلك فإن لخاطرك إن تلقي بكتابي في النار أو الماء فافعل.
ولنعد الآن إلى الفارياق فنقول أنه أقام مع والدته في البيت يتعاطى النساخة. وأنه لم يلبث أن ورد عليه نعي والده في دمشق. فتفطر قلبه لهذا الفجع وود لو بقي الطنبور عند ناهبه. وكانت أمه تنفرد في كل صباح وتندب زوجها وتتحسر عليه وتذرف المدامع لفقده. فإنها كانت من الصالحات المتحببات لأزواجهن عن خلوص وداد وصدق وفاء. وكانت تظن أن أبنها لا يراها في انفرادها حتى لا يزيد حزنها برؤيتها إياه يبكي لبكائها. لكن الفارياق كان ينظرها في خلوتها ويبكي لوحشتها ووحدتها أشد البكاء. فإذا رجعت كفكف عبراته وتشاغل بالكتابة أو بغيرها. ومذ ذلك الوقت عرف أنه لا ملجأ له بعد الله غير كدّه فعكف على النساخة. غير إن هذه الحرفة مذ خلق الله القلم لا تكفي المحترف بها ولا سيما في بلاد لوقع قرشها طنين ورنين. ولرؤية دينارها تكبير وتعويذ إلا ذلك جود من خطه ورقق من فهمه.
قسيس وكيس وتحليس وتلحيس
1 / 15
قرأ الفصل المتقدم ثم أتاه خادمه يدعوه للعشاء فترك الكتاب وقام يستقبل الكأس والطاس والقدح والكوب مما اختلفت أشكاله وتفاوتت مقاديره. ثم أقبلت عليه إخوانه يسامرونه فمنهم من قال له إني ضربت اليوم جاريتي ونزلت بها إلى السوق على عزم أن أبيعها ولو بنصف ثمنها. وذلك لأنها أجابت سيدتها جوابا سخيفا. ومنهم من قال له وأنا أيضا ضربت أبني أشد الضرب لأني رأيته يلعب مع أولاد الجيران ثم حبسته في الكنيف وهو باق إلى الآن فيه. وبعضهم قال وأنا أيضا حرجت اليوم على زوجتي بأن تطلعني على جميع ما يخطر ببالها ويخلع صدرها من الأفكار والهواجس. وبما تحلمه أيضًا في الليل من الأحلام التي تنشأ عن امتلاء الدماغ من بخار الطعام. أومن دخان الغرام قبل النيام. وقلت لها أن لم تخبرني باليقين أضريت بك أبانا القسيس فيكفرك ويحظر عليك ثم يستخرج منك كل ما تكتمين وتضمرين ويطلع على كل ما تسترين وتخفين وتصونين وعلى ما تحذرين منه، وتحرصين عليه، وترتاحين له وتميلين إليه وتكلفين به. وقد خرجت من داري غضبانا متنمرا وجزمت بأن لا أصالحها إِلا إذا كانت تقص عليّ أحلامها. وبعضهم قال إن مصيبتي في بنتي أعظم. وذلك إنها بعد أن تمشطت اليوم وتعصبت وتعطرت وتطيبت وتوسطت وتبرقشت وتزينت وتبرجت، وتزيغت وتضرجت وتزخفت وتزبرجت وتشوفت وتسرجت وتنقشت وترقشت وتزهنعت وتبرقت وتحلفت وتزوقت وتقينت وتزلقت وتزيرقت وتألقت جلست بالشباك لتنظر الواردين والصادرين. فنهيتها عن ذلك فأنصرفت ثم خالفتني فرجعت إلى موضعها. وأوهمتني إنها تخيط هناك بعض ملبوس لها. فكانت كلما غرزت بالأبرة غرزة تنظر نظرتين. فقمت إليها مستشيطًا غيظًا وجبذتها بشعرها الذي مشطته وعقصته فطلع بيدي منه خصلة وهاهي معي. وهيهات إن تنتهي عن غيها ولو نتفت شعرها كله. فإنها كالمهرة الجامحة بغير عنان. لا يردها لكم بالأكف ولا ضرب بعيدان نعم أن من ملأ أعصاله بألوان الطعام وأذنيه بمثل هذا الكلام فلا بد وأن يكون قد نسي.
ما جرى على الفارياق من الوقوع الحسي والمعنوي ومن فجعه بنعي أبيه. ومن إقباله على نسخ الكتب من ذلك جودة الخط فمن ثم اضطررت إلى الإعادة. وأزيد هنا أن أقول:
1 / 16
إنه لما شاعت براعته في النسخ أرسل إليه من اسمه على وزان بعير بيعر يستدعيه لنسخ دفاتر كان يودعها كل ما كان يحدث في زمانه. وليس الغرض من ذلك إفادة أحد من العالمين. وإنما كان إمساكًا للحوادث من أن تتفلت من مدار الأيام. أو تنفك من سلسلة الأحوال. فأن كثيرًا من الناس يرون أن إحضار الماضي وجعله حالًا منظورًا من الأمور العظيمة. ولذلك كانت الإفرنج حراصًا على تقييد كلما يقع عندهم. فخرج عجوز من بيتها صباحًا وعودها إليه في الساعة العاشرة وهي تقود كلبًا لها. والريح عاصفة والمطر واكف لا يفوت أقلامهم ولا يعدو خواطرهم. ففي مقدمة ديوان Lamartine أعظم شعراء الفرنساوية الموجودين في عصرنا وهو ديوان الذي سماه التأمل الشعري ما ترجمته. وكانت العرب يدخنون التبغ في قصبات لهم طويلة وهم ساكتون وينظرون إلى الدخان متصاعدًا كأعمدة زرقاء لطيفة إلى أن يضمحل في الهواء اضمحلالًا يشوق الرائي. والهواء إذ ذاك شفاف لطيف إلى أن قال: ثم أن صحي من العرب جعلوا الشعير في مخال من شعر المعزي ووضعوها في أعناق الخيل وهي حول خيمتي. وأرجلها مربوطة في حلق من حديد وهي غير متحركة. ورؤوسها مخفوضة إلى الأرض مظللة بنواصيها الشعثة. وشعرها أشهب براق يخرج منه دخان تحت أشعة الشمس الحامية وكانت الرجال قد اجتمعت تحت ظل زيتونة من أعظم ما يكون. وفرشوا تحتهم على الأرض حصيرًا شاميًا وأخذوا في الحديث والحكايات عن البادية وهم يدخنون التبغ وينشدون أشعار عنتر وهو من شعراء العرب الذين اشتهروا بالحماسة والرعاية أي رعاية البهائم والبلاغة وقد بلغت أشعاره منهم مبلغ التنباك في الأركيلة. وحين كان يرد عليهم من الأبيات ما يؤثر في حسهم أكثر كانوا يرفعون أيديهم إلى آذانهم ويطرقون برؤوسهم ويصرخون تارة بعد تارة الله الله الله. إلى أن قال في وصف امرأة رآها تبكي عند قبر زوجها وكان شعرها مسدلًا من عند رأسها ملتفًا عليها ومماسًا للأرض. وكان صدرها مكشوفًا كله على ما جرت بع العادة عند نساء تلك البلاد من بلاد العرب. وحين كانت تتطأطأ للثم صورة العمامة على رجال القبر أو تصغي أذنها إليه كان ثدياها البارزان يمسان الأرض ويرسمان في التراب شكلهما كالقالب. أهـ صفحة ٢٤ وسائر هذه المقدمة على هذا النمط مع انه سماها مقدور الشعر أي ما قدره الله تعالى على الشعر والشعراء.
وفي رحلة شاتوبريان إلى أمريكا وهو أيضًا من أعظم شعراء عصره ما صورته. وكان منزل رئيس الدول المتحدة عبارة عن دار صغيرة مبنية على أسلوب إنكليزي في البناء من دون خفرة عندها من العسكر ولا حشم داخلها. فلما قرعت الباب فتحت جارية صغيرة فسألتها هل الجنرال في البيت فأجابت نعم. فقلت أن عندي رسالة أريد أن أبلغه إياها. فسألتني عن اسمي وصعب عليها حفظه فقالت لي بصوت منخفض أدخل يا سيدي وأورد هذه العبارة باللغة الإنكليزية Walk in sir تنبيهًا على معرفته لها ثم مشت أمامي في ممشى طويل كالدهليز. ثم دخلت بي إلى مقصورة وأشارت إليّ أن أجلس فيها منتظرًا الخ صفحة ٢٥. وفي موضع آخر أنه رأى بقرة عجفاء لامرأة من هند أمريكا فقال لها وهو راث لحالها: ما بال هذه البقرة عجفاء؟ فقالت له إنها تأكل قليلًا وأورد هذه العبارة أيضًا باللغة الإنكليزية وهي She eats very little. وفي موضع آخر ذكر أنه كان يرى كسف السحاب بعضها في شكل حيوان وبعضها في شكل جبل أو شجرة وما أشبه ذلك.
فإذ قد عرفت هذا فأعلم إن اعتراضك عليّ في إيراد ما هو غير مفيد لك لكنه مفيد لي لا يكون إلا تعنتًا فإن هذين الشاعرين كتبا ما كتباه ولم يخشيا لومة لائم، ولم يعترض عليها أحد من جنسيهما. وقد اشتهر فضلهما وصيتهما حتى أن مولانا السلطان أدام الله دولته أقطع لا مرتين في أرض أزمير إقطاعات عظيمة. ولم يسمع عن ملك من ملوك الإفرنج إنه أقطع شاعرًا عربيًا أو فارسيًا أو تركيًا مقدار جريب واحد في أرض عامرة. ولا غامرة. فأما كون وازن بعير بيعر قد حاكى الإفرنج في تاريخه وهو عربي وأبواه أيضًا عربيان وعمه وعمته كذلك عربيّان. فما لم أتيقنه إلى الآن. ولعلي أعلمه بعد إنجاز هذا الكتاب فأخبر به القارئ إن شاء الله. وإنما أرجو أي القارئ ألا يقطع قراءته لجهله سبب هذه المحاكاة وإن يكن العلم به مهمًا.
1 / 17
ودونك مثالًا مما كان يكتبه الفارياق في أساطير بعير بيعر. في هذا اليوم وهو الحادي عشر من شهر آذار سنة ١٨١٨ قصَّ فلان ابن فلانة بيت فلانة ذنب حصانه الأشهب بعد أن كان طويلًا يكنس الأرض. وفي ذلك اليوم بعينه ركبه فكبا به. فإن قلت ما سبب النسبة إلى الأم دون الأب قلت أن بعير بيعر كان من المتديّنين، المتورعين المتقين. فنسبة الولد إلى أمه أصح وأصدق من نسبته إلى أبيه. فإن الأم لا تكون إلا واحدة بخلاف الأب ولكون الجنين لا يمكنه الخروج إلا من مخرج واحد، ومن ذلك اليوم نظرت سفينة في البحر ماخرة فظُن إنها بارجة قدمت من إحدى مراسي فرنسا لتحرير أهل البلاد، لكنه عند التحقيق ظهر أنها كانت زورقًا مشحونًا ببراميل فارغة وكان سبب قدومه للاستقاء من عين كذا. فإن قيل أن هذا خلاف المعهود، فإن من شأن الكبير أن يبدو للعين عن بُعد صغيرًا لا عكسه. قيل أن الإنسان إذا أعطى نفسه هواها رأى الشيء بخلاف ما هو عليه. فمن أحب مثلًا امرأة قصيرة لم ير بها قِصْرًا. ومنخلا بمحبوبته في فترة رآها أوسع من صرح بلقيس. فإنا نرى النور الصغير عن بُعدٍ كبيرًا. فلا غرو أن يبدو الزورق بارجة أو شونة. فإن القوم هناك ما زالوا يحملون بأن رؤوسهم قد تبرطلت ببراطل الفرنساوية ولحموا عرضهم بعرضهم حتى يروا نساءهم كما قال الشاعر:
تصيد ظباؤنا الأسدُ الضواري ... بلحظ أو بلفظ في المسالك
وغزلان الفرنج تصيد أيضًا ... بذَيْن معا وبالأيدي كذلك
وكان بعير بيعر سُتْهمَا جَعْظَرا أُحرقه. لكنه كان حليمًا يجب السلم والدعة. وكان من التغفل على جانب عظيم. فكان مفوضًا أموره المعاشية إلى رجل لئيم شرس الأخلاق عيده به كبر وعنجهية وعجرفة وتفجُّس وغطرسة. وكان تمضي عليه الساعة والساعتان وهولا يبدي ولا يعيد. فيظن الغر أنه معمل فكره في تدبير الدول. أو تلخيص النحل. فقد جرت العادة بأن الرجل إذا كان ذا منزلة رفيعة فإن كان عييا مفحمًا عُدّ رزينًا وقورًا. وأن يك مهذارًا عد فصيحًا. فأما أموره المعادية فإنها كانت تعلو وتسفل وتضوي وتجزل وتفتق وترتق بتدبير قسيس ذي دعابة وفكاهة وبشاشة وهشاشة. قصير سمين. أبيض بدين. وكان هذا القسيس الصالح قد تمكن من حريمه تمكنًا لا يباريه فيه النسيم. وألقى عصاه عند إحدى بناته وكانت ذات وجه وسيم ومنطق رخيم. وكانت تزوجت برجل قد جُنّ وتخبل فخلته وجنونه واعتصمت بعقوة أبيها فكان القسيس آمرًا عليها مطاعًا. ناهيًا وزاعًا فكانت كلما دخل فيها شيء أوخرج منها شيء تطالعه به لأنها كانت ممن قفط قطري الدين والدنيا معًا. وكانت تعترف له بجرائرها في الخلوة. وهو يسألها عن كل زلة وهفوة. فيقول لها هل تتذبذب أليتاك ويترجرج ثدياك عند صعودك الدرك أو عند المشي. وهل يحدث فيك هذا الارتجاج من لذة. فقد ورد في بعض الأخبار أن بعض الجلامظة كان يرتاح إلى أي ارتجاج كان. حتى كان كثيرًا ما يتمنى أن تتزلزل الأرض من تحته. وتمور الجبال من فوقه. وهل يمثل لك في الحلم ضجيع يكافحك. وخليع يصافحك إذ لا فرق عند الله بين اليقظة والمنام. وأن أعظم الحقائق إنما بني على الأحلام. وهل وسوس إليك الوسواس الخناس فاشتهيت أن تكوني خُنْثَى، أي ذكرًا وأنثى لا ذكر ولا أنثى كما تقول العامة. فإن هذا القول لم يرتضه المحققون من الربانيين اللاتين وغير ذلك من الوسائل التي يضيق عن تفصيلها هذا الفصل. وكان أبوها لا يسيء به الظن لما تقرر عنده من أن كل من لبس السواد فهو من الفاطميين أهواءهم عن اللذات الخاصين أنفسهم عن الشهوات حتى أنه نظر يومًا في بعض الكتب هذا البيت وهو:
وذموا لنا الدّنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما تدّر لنا ثعل
فظن أنه تعريض بهم وتلميح إليهم. فأمر بإحراقه فأحرق وذرى رماده. ورأى يومًا آخر بيتين في كتاب آخر وهما:
ما بال عيني لا ترى من بين من ... لبس السواد من العباد نحيفًا
ما كان من لحمٍ وشيء غيره ... فيهم فأصلب ما يكون وقوفاُ
1 / 18
فأمر أيضًا بإحراق الكتاب. وبعث جواسيس في البلد يتجسسون عن مؤلفه ونودي في الروابي والوهاد. ألا من دل على مؤلف كتاب كذا فإنه يجزي أحسن الجزاء. ويرقى إلى رتبة سنية. فلما سمع المؤلف بذلك اضطر إلى الاختفاء مدة حتى نُسي اسمه. فإن قلت أن هذا الفعل خلاف ما وصفته به من الحلم قلت إن عادة أهل تلك البلاد أن الحلم يكون محمودًا في كل شيء إلا في أمرين حرمة العرض وحرمة الدين فأن الأخ ليبسل أخاه إلى الهلكة من أجلهما.
ثم أن الفارياق أقام عند هذا الحليم مدة لم يحصل فيها على طائل. وكانت نفسه عزيزة عليه فلم يرد أن يسأله. فمن ثم جمع ذات ليلة حطبًا وتبنًا كثيرًا وأطلق فيهما النار فانبعث اللهيب نحو مقصورة بعير بيعر، فظن أن النار قد سرت في قصره. فاستوشى القيام والقعود فأقبلوا يتسابقون إلى موضع النار. فرأوا الفارياق يزيدها من الحطب الجزل فسألوه عن ذلك فقال أن هذه النار من بعض النيران التي تنوب عن اللسان. وأن لم يكن لها صورة لسان. وإن لم يكن لها صورة لسان. ومن فوائدها إنها تنبه الغافلين وتنذر الباخلين. أن وراءها لقولًا شديدًا ولسانًا حديدًا. فقالوا ويحك إنما هي من بدعك أو يكلم أحد بالنار. لقد سمعنا إن الإنسان يكلم غيره ببوق أو بقرع عصا أو بإشارة إصبع أو بغمز عين أو برمز حاجب أو برفع يد من عند الإبط. فأما بالنار فبدعة وضلال. وكادوا أن يبدعوه ويكفروه وينسبوه إلى التمجس ويطرحوه النار. لولا أن قال قائل منهم. ردوا الجواب على مرسلكم. ولا تفعلوا شيئا عن تهوك. فلما أخبروه بما رأوا وسمعوا. استرآه واستنطقه عن ذاك الأجيج. فقال أصلح الله المولى. وزاده فضلا وطولا. قد كان لي كيس لا ينفعني ولا أنفعه. والأكياس ولما جاء على وزنها ورويها عادة مخالفة لسائر العادات وهي إنها إذا خفت ثقلت. وإذا ثقلت خفت. فلما خف كيسي في جوارك السعيد أي ثقل أحرقته بهذه النار. وإنما جعلتها عظيمة هكذا لأني كنت أتوهمه كرضوى في جيبي. حتى إنه كثيرا ما منعني عن النهوض والخروج لحاجة مهمة فلما سمع قوله ضحك من خرافته ورضخ له من كفه الجامدة شيئا يقابل ما كتبه له الفرياق في أسفاره في الخساسة. فأقبل يحنبش إلى بيته وآلى أن لا يكتب شيئًا بعد ذلك الإ ما طاب موقعه. وجل نفعه. رجاء إن تكون الأجرة على قدر العمل. وهيهات فإن أكثر الناس نفعًا وشغلًا. أقلهم أجرًا وجعلا. ومن لم يحسن إلا التوقيع. احل المحل الرفيع. ولقمت يده وقدمه كما يلقم الثدي الرضيع.
طعام واِلتهام
1 / 19
بينما كان الفارياق رأسه ورجلاه في البيت كان فكره يصعد في الجبال. ويرتقي التلال. ويتسور الجدران. ويتسنم القصور ويهبط الأودية والغيران ويرتطم في الأوحال. ويخوض البحار. ويجوب القفار. إذ كان أقصى مراده أن يرى غير منزله وناسا غير أهله. وهو أول عناء الإنسان في حياته. فعن له أن يزور أخًا له كان كاتبا عند بعض أعيان الدروز. فسار وحقائبه الأماني. فلما أجتمع به ورأى ما كان عليه القوم من الخشونة والتقشف ومن الأحوال المغايرة لطباعه. أنكر بعضها ووطن نفسه على تحمل البعض الآخر. ولم يشأ وشك الرجوع من دون تقصي معرفتهم. ولو كان رشيدا لصرف نفسه عن هواها من أول يوم. إذ ليس من المحتمل إن أهل مدينة أو قرية يغيرون أخلاقهم وما ربوا عليه لأجل غريب دخل فيهم. ولا سيما إذا كانوا شياظمة ذوي بسطة وبأس. وكان هو قميا. ولكن الإنسان كلما قل شغله كثر فضوله فلا يكتفي بمجرد ما يسمع بإذنه حتى يرى بعينه. وكان الفارياق كلما زاد بهؤلاء القوم خبرة ونقدًا. زاد أعراضًا عنهم وزهدًا لأنهم كانوا غلاظ الطباع. بهم جفاء وإفظاع. وسخي الوساد والملبوس. ملازمي الضعف والبؤس. وأقذرهم كان طباخ الأمير فإن قميصه كان أنتن من الممحاة. وقدميه أقلتا من الوسخ ما لا تكاد تكشطه عنه المسحاة. وكانوا إذا قعدوا للطعام سمعت لهم زمزمة وهمهمة. وقعقعة وطعطعة. فخلتهم وحوشا على جيفة يثرملون ويرهطون وينهسون ويتعرقون ويتمششون ويتلمظون ويتمطقون ويلوسون ويلطعون ويتنطعون وكل ذلك في فرشطة خفيفة. فكنت ترى في جبهة كل منهم مضمون ما قيل من لفلف. لم يتقصف. فإذا قاموا رأيت الرز مزروعا في لحاهم والوضر متقاطرا من كساهم. فكان الفارياق إذ آكلهم قام جوعانا. ومعت أمعاؤه في الليل. فبات سهرانًا. فكان يقول لأخيه عجبًا لمن يعاشر هؤلاء الناس. من الأكياس. ما الفرق بينهم وبين البهائم. سوى باللحى والعمائم. لا جرم إنهم عائشون في الدنيا لسد بصائرهم وأفكارهم. ولفتح أفواههم وأدبارهم لا يكاد أحد منهم يظن أن الله تعالى بشرا إلاَّ وكان دونه وما يدرون إن الإنسان ليس له بمجرد النطق فضل على العجماوات ومزية على الجمادات. فإن الكلام إنما هو مادة لصورة المعاني. ولا تنفع المادة وحدها إذا لم تحل فيها الصورة التي هي الوجود الثاني. وقد يقال إن الرقين. تغطي أفن الأفين. وهؤلاء قد حرموا من العقل والنعمة. ورضوا من الكون كله بالنسمة. كيف تطيق إن تعاشر هؤلاء الهمج وفضلك بين الناس قد بلج. فقال له أخوة إن كثيرا ليحسدونني على مكانتي عند الأمير. وإني لكيد حسادي أصبر على العسير كما قيل.
وكم أشياء يحسبها أناس ... لفاعلها نعيم وهي بؤسُ
ولولا إن يكيد بها حسودًا ... لأنكر ذكرها وبه عبوسُ
وفضلا عن ذلك فإن القوم ذوو نخوة ومروءة. وشهامة وفتوة. وإنهم وأن يكونوا سيئي الأدب على الطعام. فهم متأدبون في الفعال والكلام. لا ينطقون بالخنى ولا يعرف بينهم لواط ولا زنا.
غير إن الفارياق كان يرى كله في المأدبة فكأنه كان قد تخرج على بعض الإفرنج أو كان فيهم نسبة. فمن ثم استدعى بقريحته على هجوم فلبته. ونادى القوافي لوصفهم فأجابته. فنظم فيهم قصيدة بين فيها سوء حالهم وخشونة بالهم. من جملتها
في ثغر كل منهم سكيَّنة ... وسلاحه الماضي فأين المطعمُ
ثم عرضها على أخيه وكان مشهودًا له بالأدب. وعلم لغة العرب. فاستحسنها منه على صغر سنه. وأعجب ببراعة فنه. ثم لم يلبث أن اشتهر أمرها وشاع ذكرها. وذلك لأن أخاه من شدة إعجابه بها تلاها على كثير من معارفه فبلغها بعض الحساد إلى أمير الناد. وكان هذا المبلغ نصرانيًا فإن الحسد لا يكون إلا عند النصارى. مع أن كثيرًا ممن تليت عليهم من الدروز كانوا داخلين في عداد المهجوين.
1 / 20