142

فارتفعت عينها بلا عمد إلى قبعته المشدودة إلى جبينه الملوح الرطب ولم تتكلم، ولكنها منحته ابتسامة الدلال المألوفة وجعلت تردد سؤاله «إلى أين؟» وهي تجهل ما عسى أن يقع لها.

وزايلها غضبها على سارودين، ولم تكد تفهم لماذا قصدت إليه، فقد كان يخيل لها أن من المستحيل أن تحيا بدونه أو أن تحتمل حزنها وحدها. أما الآن فكأنما اختفى وغاب ولم يعد له وجود في حياتها ومات الماضي ولم يبق إلا ما يعنيها وحدها، وهذا ما يسعها أن تبت فيه دون أن ترجع في ذلك إلى أحد.

وكان ذهنها يفكر بسرعة المحموم، غير أن خواطرها كانت على هذا واضحة جلية ولكن أهول ما كان يهولها هو أن ليدا الجميلة المزهوة ستذهب وتخلف وراءها مخلوقا شقيا مضطهدا ملطخا ضعيف الحول. كلا! لا بد أن تبقى النفس المزهوة والوجه الجميل، وإذن لا بد لها أن تمضي إلى حيث لا تعلق بها الأوحال.

ولما تقرر هذا في ذهنها أحست كأنما أحاط بها فراغ وغابت الحياة والشمس والناس وصارت مستفردة بينهم كل الاستفراد، ألا لا مفر! لا معدى لها عن الموت! يجب أن تغرق نفسها. وما عتمت أن استولت عليها هذه النية واستغرقتها هالة الفكرة، فبدا لها كأن سورا من الحجر التف بها وحجبها عن كل ما كان وكل ما عسى أن يكون.

وقالت: «ما أبسط هذا في الحقيقة!» ودارت بعينها ولم تر شيئا ...

وصارت خطاها أسرع، ولولا سعة ثوبها لجرت فقد كانت تحس أن بطأها لا يطاق. «هنا بيت وها هنا آخر له نوافذ خضراء ثم هنالك الفضاء!»

والنهر والجسر ثم ما سيحدث ... فلم تتمثل لها صورة واضحة لهذا، فكأن ثم سحابة أو ضبابا يحجب كل شيء، غير أن هذه الحالة النفسية لم تدم إلا ريثما بلغت الجسر. ولما حنت على سور الجسر ترمق الماء المربد زايلتها ثقتها بنفسها وتملكها الخوف وإرادة الحياة، وعاودها إحساسها بكل شيء حي وسكت سمعها الأصوات وتناغي الأطيار، ورأت نور الشمس والأزاهير في الرياض والجرو الأبيض يتطلع إليها تطلع من يعدها سيدته بلا مراء، وكان مقعيا قبالتها يرفع لها كفه ويضرب الأرض بذيله.

فرنت إليه ليدا واشتاقت أن تضمه على ساعديها إلى ثدييها، واغرورقت عيناها وغلبها الأسى والأسف على حياتها الجميلة التي درست، فمالت إلى السور وهي تكاد تفقد رشدها واتكأت على حافته الملتهبة، فسقط لسرعة انحنائها أحد قفازيها في الماء، فجعلت ترقب في فزع صامت هوية الساكن إلى صفحة الماء واندياح الدوائر فيها، فرأت قفازها الأصفر يحلولك شيئا فشيئا ويملؤه الماء وينقلب كأنما لواه ألم النزع ثم يهوي إلى أغوار النهر الخضراء، فحددت ليدا نظرها لترى غوصه، ولكن النقطة الصفراء لم تزل تتضاءل حتى غابت، ولم تعد تأخذ عينها إلا صفحة الماء المصقولة.

وإنها لكذلك وإذا بصوت أنثى على كثب منها يسألها: «كيف حدث هذا أيتها السيدة؟»

ففزعت متراجعة ورأت فلاحة مفرطحة الأنف ترمقها مستطلعة بعين عطوف، ومع أن هذا العطف لم يكن المقصود به إلا القفاز المفقود، إلا أن ليدا شعرت كأنما هذه الفلاحة السمينة الطيبة القلب تعرف كل شيء وترثي لها، فهمت أن تقص عليها خبرها وأن ترفه بذلك عن قلبها، غير أنها نحت هذه الفكرة وطاردتها مستسخفة إياها واحمر وجهها وتمتمت: «لا شيء!» وهي تتطرح متراجعة عن الجسر. «هنا! مستحيل، لو أغرقت نفسي هنا لأنقذوني.»

Unknown page