وسارت مسافة أخرى على شاطئ النهر متوخية طريقا ممهدا إلى اليسار بين النهر والحقول وعلى جانبيه الأشواك والأزهار وأشجار الصفصاف منحية إلى النهر، وكان الشاطئ المنحدر مكسوا بالخضرة ومغمورا بنور الشمس والنباتات تترنح نواراتها اللزجة فوق الأكلاء والأشواك التي علقت بأهداب ليدا، ولمست وهي سائرة نباتا هائجا فانتثرت فوقها حباته البيضاء.
وكانت ليدا تدفع نفسها دفعا وتغالب القوة التي تحاول أن تثنيها وتقول وتكرر: «لا بد من ذلك! لا بد منه!» وهي تجر نفسها وكأن رجليها أنبت ما بينهما لما نأت عن الجسر ودنت من الموضع التي اعتزمت أن تنتهي إليه.
ولما بلغته ورأت الماء الأسود البارد في ظل الأغصان المتهدلة والتيار يندفع ويزخر عند زاوية ناتئة من الشاطئ أدركت لأول مرة كيف شوقها إلى الحياة وفزعها من الموت، ولكنه لم يكن لها مفر من الموت إذ كان البقاء مستحيلا. فرمت بقفازها الثاني ومظلتها دون أن تنظر حولها، وعاجت عن الطريق ومالت إلى النهر بين الحشائش ومر بذهنها في تلك الهنيهة ألف خاطر وتنبه إيمانها من أعمق أعماق روحها حيث ظل راقدا، فجعلت تردد هذه الصلاة: «رب انقذني! رب ساعدني.» وما أتمتها حتى ذكرت من حيث لا تحتسب قطعة من أنشودة كانت تدرسها في الأيام الأخيرة، فارتد ذهنها إلى سارودين ثم بدا لها وجه أمها وزاد حبها لها في تلك الآونة، فلم يثنها ذلك بل زاد عزمها مضاء فاندفعت تعدو إلى النهر، ولم تكن ليدا تدرك حتى الساعة أن أمها وسائر من يحبونها إنما يحبون منها ذلك الذي يودون أن تكونه لا ليدا على حقيقتها وبكل عيوبها ونقائصها وشهواتها. فالآن وقد حادت عن الطريق الذي لا يعدون غيره مستقيما فإن هؤلاء الوامقين وأمها على وجه أخص سيقسون عليها بقدر حبهم لها.
ثم اختلط كل شيء في نظرها اختلاط الحلم في مخيلة المحموم وتنازعها الخوف والشوق إلى الحياة، والإحساس بالقدر المحتوم والإنكار والاقتناع بأن الأمر قد قضي والأمل واليأس، والشعور المفزع بأنها ها هنا ستموت، ثم مثلت لعينها صورة رجل شبيه بأخيها يثب بين الأكلاء إليها. «لم يكن يسعك أن تفعلي أسخف من هذا!» هكذا قال سانين وهو يلهث.
ومن عجيب الاتفاق أن ليدا كانت قد انقلبت إلى نفس الموضع الذي أمكنت فيه سارودين منها لأول مرة، وهو موضع تحجبه الأشجار الضخمة عن ضوء القمر، فرآها سانين وفطن إلى ما عقدت عليه نيتها، فخطر له بادئ الرأي أن يدعها وشأنها، ولكن حركاتها العصبية المضطربة حركت عطفه فتخطى مقاعد الحديقة وحواجزها وأسرع إلى إنقاذها.
فكان لصوت أخيها تأثير مفزع في نفسها، فتداعت أعصابها بعد أن شدها الصراع الباطن ودارت بها الأرض، وصار كل شيء يسبح أمام عينيها، ولم تعد تدري أفي الماء هي أم على الشاطئ. وكان سانين قد أمسك بها ولما يكد، وتراجع عن الماء وقد سرته قوته ومهارته وقال: «هذا أنت!» وأجلسها إلى سياج الحديقة وأدار عينه فيما حوله وهو يقول لنفسه: «ماذا أصنع لها؟»
ثابت إلى ليدا روحها في هذه اللحظة وشرعت تبكي بكاء أليما وهي مصفرة مضطربة، وتقول وهي تعول كالطفل: «يا إلهي! يا إلهي!»
فقال سانين ناهرا في رفق: «سخافة مطبقة!»
ولم تسمعه ليدا ولكنها لما أخذ يتحرك تعلقت بذراعه وزاد عويلها ثم قالت لنفسها خائفة: «آه! ماذا أنا صانعة؟ لا ينبغي لي أن أبكي، يجب أن أضحك وإلا فطن إلى الأمر.» فسألها سانين وربت كتفها بحنان: «ما لك مضطربة؟» فرفعت إليه طرفها تحت القبعة وبها مثل حياء الطفل وكفت عن البكاء فقال سانين: «إنى أعرف كل شيء. القصة كلها. أعرفها من زمن مديد.»
وكانت ليدا تعلم أن أناسا كثيرين قد فطنوا إلى نوع علاقاتها مع سارودين، ولكنها أحست لما قال سانين هذا كأنما لطمها على وجهها، فتقبض جسمها اللين ونظرت إليه بعين فاض منها الدمع، فقال سانين وهو يضحك: «ماذا دهاك الآن؟ إنك تنظرين إلي كأني دست على قدميك.»
Unknown page