غير أن حياتنا تلك لم تكن كلها محض خيال تام وعقيم. ألم تكن مغزولة من ألياف الواقع الفعلية والتي جمعناها في جميع مرات ذهابنا وإيابنا عبر بابنا، وجميع معاملاتنا مع الضاحية والمدينة والمدن الأبعد وكذلك أطراف الأرض؟ ألم نكن نحن نغزل معا تعبيرا أصيلا عن طبيعتنا؟ ألم تنتج حياتنا كل يوم خيوطا متينة إلى حد ما من العيش النشط، والتي قد تداخلت في الشبكة النامية؛ نمط الإنسانية المعقد الدائم التكاثر؟
كنت أنظر إلى «علاقتنا» بحماس هادئ ونوع من الرهبة المبتهجة. كيف يمكنني أن أصف علاقتنا حتى لنفسي دون ازدرائها أو إهانتها بزخرف النزعة العاطفية المبهرج؟ ذلك أن توازننا الدقيق من الاعتمادية والاستقلالية، ذلك الاتصال المشترك الناقد بعقلانية والساخر بدهاء والمحب مع ذلك، كان بالتأكيد عينة مصغرة للرفقة الحقيقية، وكان في أسلوبه البسيط بالرغم من كل شيء مثالا فعليا وحيا على الهدف السامي الذي يسعى إليه العالم.
العالم بأكمله؟ الكون بأكمله؟ في الأعلى كشف الظلام عن نجمة. شعاع واحد مرتعش من الضوء قد انبعث من آلاف الأعوام قد أتعب الآن أعصابي بالرؤية وقلبي بالخوف. ففي كون مثل هذا الكون أي أهمية قد تكون لرفقتنا الواهية، الوليدة الصدفة، السريعة الزوال؟
لكن الآن قد استغرقت بصورة غير عقلانية في نوع غريب من العبادة. لم يكن ذلك التقديس تجاه النجمة بالتأكيد؛ فهي محض أتون لم يمنحه تلك القداسة الزائفة سوى بعده، بل كان تجاه شيء آخر، أبرزه للقلب التناقض الشديد بيننا وبين النجمة، لكن ما ذاك الذي قد يمثل أهمية على هذا النحو؟ إن الفكر حين أمعن النظر فيما يكمن وراء النجمة لم يكتشف أي «صانع نجوم»؛ لم يكن هناك سوى العتمة؛ لم يكن ثمة حب ولا حتى قدرة، فقط عدم. بالرغم من ذلك، سبح القلب.
بنفاد صبر دفعت عني هذه الحماقة، وارتددت من الملغز إلى المعروف والملموس. منحيا العبادة بعيدا وكذلك الخوف والمرارة، قررت أن أفحص «علاقتنا» الغريبة تلك بقدر أكبر من الموضوعية، تلك الحقيقة المثيرة للإعجاب على نحو مدهش، والتي ظلت بالنسبة إلينا أساسية للكون، بالرغم من أنها بدت أمرا تافها للغاية بالنسبة إلى النجوم.
حتى عند التفكير في الأمر دون التطرق إلى خلفيتنا الكونية المهينة، فنحن في نهاية المطاف تافهان وربما حتى سخيفان. لم نكن سوى حدث عادي، مبتذل للغاية ومحترم للغاية. لقد كنا زوجين فحسب، نتدبر أمرنا كي نعيش معا دون أعباء لا داعي لها. كان الزواج في عصرنا مريبا. وقد كان زواجنا، بأصله الرومانسي التافه، مريبا على نحو مضاعف.
التقينا للمرة الأولى حين كانت زوجتي طفلة. تلاقت عيوننا. نظرت إلي للحظة بانتباه هادئ؛ حتى إنني تخيلت برومانسية أن تلك النظرة ربما كانت تحمل إدراكا غامضا عميقا. على أي حال، رأيت أنا في تلك النظرة قدري، أو هكذا أقنعت نفسي في حمى سن المراهقة. أجل! كم بدا اتحادنا مقدرا! أما الآن، فعند النظر في الماضي، كم يبدو تصادفيا! صحيح أننا كنا متلائمين في علاقة زواجنا التي امتدت لفترة طويلة، كشجرتين قريبتين إحداهما من الأخرى قد نما جذع كل منهما إلى الأعلى معا في جذع واحد، بحيث كل منهما يشوه شكل الآخر، وفي نفس الوقت يدعمه. الآن قيمت زوجتي بموضوعية على أنها محض إضافة مفيدة لحياتي الشخصية، لكنها مدعاة للغضب في معظم الأحيان. لقد كنا في المجمل رفيقين رشيدين. وقد ترك أحدنا للآخر قدرا من الحرية؛ فاستطعنا أن نتحمل قربنا المتواصل معا.
تلك كانت علاقتنا. وعند ذكرها بهذه الطريقة، لم تبد مهمة للغاية في فهم الكون. غير أنني كنت أعرف في قرارة نفسي أنها كذلك. حتى النجوم الباردة، وحتى الكون بأكمله بجميع أبعاده الهائلة العقيمة لم يستطع أن يقنعني بأن هذه الذرة الثمينة التي تمثل رفقتنا - بالرغم من افتقارها إلى المثالية، وبالرغم من قصر أجلها كما لا بد لها أن تكون - ليست بالمهمة.
لكن أيمكن فعلا أن يكون لاتحادنا الذي يتعذر وصفه أي أهمية تتجاوز وجوده هو ذاته؟ هل أثبت مثلا أن الطبيعة الجوهرية للبشر هي الحب لا الكره والخوف؟ أكان برهانا على أن جميع الرجال والنساء في شتى أنحاء العالم قادرون على دعم مجتمع نسيجه الحب، بالرغم من أن الظروف قد تمنعهم من ذلك؟ وهل أثبت مثلا، وهو نفسه من نتاج الكون، أن الحب أساسي للكون بطريقة ما؟ وهل قدم، من خلال تميزه الجوهري، ضمانا ما بأننا، نحن الاثنين، داعماه الواهيان، لا بد أننا نتمتع بطريقة ما بحياة أبدية؟ هل أثبت فعلا أن الحب هو الرب وأن الرب ينتظرنا في السماء؟
كلا! إن رفقة روحينا البسيطة الودودة المثيرة للغضب والمثيرة للضحك، والثمينة رغم خلوها من الزخرفة، لم تثبت أيا من هذه الأشياء، ولم تكن ضمانا محددا على أي شيء سوى صحتها غير المثالية؛ لم تكن سوى تمثيل ضئيل وساطع للغاية لاحتمال واحد من بين الكثير من احتمالات الوجود. تذكرت حشود النجوم التي لا ترى. تذكرت اضطراب الكراهية والخوف والمرارة في عالم الإنسان. تذكرت أيضا خلافنا المتكرر. وذكرت نفسي بأننا يجب أن نختفي سريعا مثلما تختفي الموجات الصغيرة التي يشكلها النسيم على المياه الساكنة.
Unknown page