مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
تقديم
في وقت تكون فيه أوروبا في خطر كارثة أسوأ من كارثة عام 1914، قد يدان كتاب كهذا باعتباره مصدر تشتيت عن الحاجة العاجلة للدفاع عن الحضارة ضد الهمجية الحديثة.
عاما بعد عام وشهرا بعد شهر، تصبح أزمة حضارتنا المتشرذمة المتزعزعة أكثر خطورة. إن الفاشية بالخارج تزداد ضراوة ووحشية في مشاريعها الخارجية، وتزداد في طغيانها على مواطنيها، وتزداد همجية في امتهانها لحياة العقل. وحتى في بلدنا نجد أن لدينا ما يدفع إلى الخوف من الميل نحو العسكرة وتحجيم الحرية المدنية. وعلاوة على هذا، مع مرور العقود نجد أنه ما من خطوة حازمة قد أخذت لتخفيف الظلم الواقع في نظامنا الاجتماعي. إن نظامنا الاقتصادي البالي يودي بالملايين إلى اليأس.
في هذه الظروف يصعب على الكتاب أن يؤدوا رسالتهم بشجاعة وبرأي متزن في الوقت ذاته. البعض لا يفعل شيئا سوى أن يهزوا أكتافهم وينسحبوا من الصراع الأساسي في عصرنا. وهؤلاء الذين يحولون أذهانهم عن القضايا الأهم في العالم ينتهي بهم الأمر ليس إلى إنتاج أعمال تفتقر إلى العمق والأهمية بالنسبة إلى معاصريهم فحسب، بل تفتقر أيضا إلى الصدق؛ ذلك أن هؤلاء الكتاب سيحاولون إقناع أنفسهم إما شعوريا وإما لا شعوريا بأن الأزمة التي يواجهها البشر لا وجود لها، أو أنها أقل أهمية من أعمالهم، أو أنها لا تخصهم في شيء على أي حال. غير أن هذه الأزمة موجودة بالفعل، وهي ذات أهمية فائقة، وهي تخصنا جميعا. فهل يمكن لأي شخص يتمتع بأي قدر من الذكاء والوعي أن يرى العكس دون خداع للذات؟
بالرغم من ذلك، فأنا أكن تعاطفا شديدا مع بعض أولئك «المفكرين» الذين يصرحون بأنهم لا يملكون مساهمة نافعة يشاركون بها في هذا الصراع، ولهذا فهم يفضلون ألا يخوضوا فيه. وأنا في حقيقة الأمر واحد منهم. وما يمكنني أن أقوله في دفاعنا عن أنفسنا هو أنه بالرغم من غياب نشاطنا المباشر أو فعاليتنا في دعم القضية، فنحن لا نتجاهلها. وهي بالتأكيد تحوز على انتباهنا باستمرار وبصورة مفرطة، غير أننا قد اقتنعنا بعد طول عهد من المحاولة والخطأ أن أكثر ما يمكن أن نقدمه لخدمة القضية هو العمل بطريقة غير مباشرة. والأمر يختلف لدى بعض الكتاب؛ إذ يخوضون ببسالة في الصراع ويستخدمون قدراتهم في الدعاية للقضية، أو حتى يحملون السلاح دفاعا عنها. وإذا كانوا يتمتعون بالقدرات المناسبة، وكان النضال المحدد الذي يشاركون فيه هو في حقيقة الأمر جزء من المشروع العظيم المتمثل في الدفاع عن الحضارة (أو بنائها)، فقد يساهمون بعمل قيم بالتأكيد. ثم إنهم قد يجنون حظا واسعا من الخبرة والتعاطف الإنساني، مما يعزز كثيرا من قدراتهم الأدبية. غير أن تلهفهم على خدمة القضية قد يؤدي في حد ذاته إلى تعميتهم عن أهمية امتلاك وتعزيز ما يمكن تسميته مجازيا، حتى في زمن الأزمة هذا، ب «الوعي بالذات الذاتي النقد للنوع البشري» أو محاولة النظر إلى حياة الإنسان ككل وعلاقتها ببقية الأشياء. وينطوي هذا على الرغبة في النظر في جميع الشئون والمثل والنظريات البشرية بأقل درجة ممكنة من التحيز البشري. وهؤلاء الذين يكونون في خضم الصراع ينزعون في نهاية المطاف إلى التحزب، حتى إن كان ذلك في قضية عظيمة وعادلة. إنهم بنبل يغفلون جزءا من تلك الموضوعية، تلك القوة المتمثلة في التقييم العقلاني، والتي هي في نهاية الأمر من أثمن القدرات البشرية. وربما يكون ذلك هو المطلوب في حالتهم؛ فالنضال المستميت يتطلب من الموضوعية أقل مما يتطلبه من الإخلاص. بالرغم من ذلك، ينبغي على بعض من يؤمنون بالقضية أن يخدموها بأن يسعوا إلى التحلي بروح أكثر هدوءا مع التحلي بالولاء الإنساني. وربما نجد أن محاولة رؤية عالمنا المضطرب على خلفية من النجوم تزيد في نهاية المطاف من أهمية الأزمة البشرية الحالية، لا تقلل منها. وربما تعزز أيضا من إحسان بعضنا تجاه بعض.
انطلاقا من هذا الاعتقاد حاولت أن أبني تصورا خياليا للكيان الكلي المهيب والحيوي أيضا للأشياء. وأنا أعرف جيدا أنه تصور غير واف بدرجة مثيرة للسخرية وطفولي في بعض الجوانب، حتى عند النظر إليه من زاوية الخبرة البشرية المعاصرة. وفي عصر أهدأ وأكثر حكمة، قد يبدو جنونيا. بالرغم من ذلك، ورغم طبيعة هذا التصور الأولية المبسطة، وما يتسم به من بعد، فربما لا يكون غير ذي صلة تماما.
وبالرغم من احتمالية إثارة القلاقل مع كلا التوجهين؛ اليميني واليساري؛ فقد استخدمت في بعض الأحيان أفكارا وكلمات محددة مشتقة من الدين، وحاولت تأويلها في ضوء الاحتياجات الحديثة. لقد استخدمت مثلا الكلمتين السيئتي السمعة بشدة بالرغم من قيمتهما الثمينة: «روحاني» و«عبادة» اللتين قد أصبحتا بذيئتين لدى التوجه اليساري مثلما كانت الكلمات الجنسية القديمة الجيدة بذيئة لدى التوجه اليميني، غير أنني قد استخدمتهما للتعبير عن تجربة ينزع اليمين إلى إفسادها واليسار إلى إساءة فهمها. يمكنني القول إن هذه التجربة تنطوي على التجرد من جميع الغايات الخاصة والاجتماعية والعرقية، وليس ذلك بالمعنى الذي يدفع الإنسان إلى رفضها، بل تجعله يقدرها بطريقة جديدة. إن «الحياة الروحانية» تبدو في جوهرها محاولة لاستكشاف التوجه الملائم لخبرتنا ككل ثم تبنيه، مثلما نشعر أن الإعجاب هو الاستجابة الملائمة تجاه كائن بشري قد حسن نموه. وهذه المبادرة يمكن أن تؤدي إلى زيادة صفاء الوعي وتحسينه؛ ومن ثم فقد يكون لها تأثير عظيم ونافع على السلوك. ومما لا شك فيه أن هذه الخبرة الإنسانية الفائقة إذا لم تولد الإرادة الحازمة لخدمة إنسانيتنا التي تستفيق من غفلتها، مع شيء من الإذعان للقدر، فلن تكون إلا فخا وخدعة.
قبل أن أختم هذا التقديم لا بد لي أن أعبر عن امتناني للبروفيسور إل سي مارتن والسيد إل إتش مايرز والسيد إي في ريو لما قدموه من نقد نافع ومتعاطف والذي بناء عليه قد أعدت كتابة العديد من الفصول. وحتى الآن أجد أنني لا أزال مترددا في إلحاق أسمائهم بعمل كهذا، والذي إذا قيم بمعايير الرواية فسيكون سيئا للغاية. وهو في حقيقة الأمر ليس رواية على الإطلاق.
Unknown page