من بين العوالم الطوباوية المنشغلة التي وصفتها، كانت بضعة منها قد تأسست بالفعل قبل ميلاد الأرض الأخرى وازدهر عدد أكبر قبل أن يتشكل كوكبنا، لكن الكثير من العوالم الأكثر أهمية كانت في عصر زمني يقع بعيدا عنا في المستقبل، عصر قد جاء بعد تدمير آخر السلالات البشرية بفترة طويلة. لا شك بأن الكوارث في هذه العوالم اليقظة كانت أقل كثيرا مما هو معتاد في العوالم الأدنى مرتبة والأقل كفاءة؛ ولهذا بالرغم من أن الحوادث المميتة كانت تقع في جميع الحقب، ظل عدد العوالم اليقظة في مجرتنا في ازدياد مستمر بمرور الوقت. أما العدد الفعلي للمواليد من الكواكب، فقد بلغ الحد الأقصى (أو سيبلغه) في مرحلة متأخرة نسبيا من تاريخ المجرة بسبب فرص التقاء نجوم ناضجة وليست عجوزا، ثم تضاءل مرة أخرى. بالرغم من ذلك، ولأن التقدم المتأرجح من الحيوانية المحضة إلى النضج الروحاني لأحد العوالم يستغرق في المتوسط الآلاف من ملايين السنين، لم يبلغ السكان في العوالم الطوباوية اليقظة بالكامل الحد الأقصى إلا في مرحلة متأخرة للغاية حين كانت المجرة قد تخطت أوجها بعض الشيء بالفعل من الناحية الفيزيائية. إضافة إلى ذلك، فبالرغم من أن العوالم اليقظة القليلة قد نجحت أحيانا في الحقب المبكرة في التواصل أحدها مع الآخر، سواء أكان ذلك من خلال السفر بين النجوم أو التخاطر، فلم تشغل العلاقات القائمة بين العوالم الاهتمام الأساسي للعوالم اليقظة حتى مرحلة متأخرة نسبيا من تاريخ المجرة.
على مدار عملية التقدم التي يمر بها أحد العوالم اليقظة، كان ثمة خطر بالغ خفي ويسهل إغفاله، وهو أن الاهتمام قد يصبح «منصبا» على صعيد حالي من المساعي، فلا يحدث أي تقدم آخر. وقد يبدو من الغريب أن كائنات تتمتع بمعرفة نفسية تتجاوز ما يعرفه البشر بدرجة كبيرة تقع في شرك على هذا النحو. من الواضح أنه في كل مرحلة من مراحل التطور الذهني فيما عدا المرحلة الأعلى على الإطلاق، يكون العقل النامي حساسا وهدفا سهلا للانحراف عن المسار. وبصرف النظر عن طريقة حدوث هذا، فالحقيقة أن قلة فقط من العوالم التي حققت مرحلة متقدمة من التطور، حتى العوالم ذات العقلية المشتركة منها، قد انحرفت انحرافا كارثيا بطريقة غريبة، وهو ما أجده أمرا يصعب فهمه للغاية. ولا يمكنني سوى أن أفترض أن الحاجة الشديدة إلى الاتحاد الحقيقي والصفاء العقلي الحقيقي في هذه العوالم قد أصبحت على ما يبدو هوسية ومنحرفة؛ ومن ثم قد يتداعى سلوك هؤلاء المنحرفين المنتشين إلى شيء شديد الشبه بالقبلية والتعصب الديني. وسرعان ما يؤدي المرض إلى إبادة جميع العناصر التي كان يبدو أنها تتمرد على ثقافة المجتمع العالمي التي كانت تحظى بالقبول الواسع. وحين كانت هذه العوالم تتقن السفر بين النجوم، كانت ربما تنتابها رغبة متطرفة في فرض ثقافتها على المجرة بأكملها. وفي بعض الأحيان كان حماسها يصبح عنيفا للغاية حتى إنها كانت تشن الحروب الدينية القاسية على كل من يعارضها.
إن أشكال الهوس الناتجة من مرحلة أو أخرى من مراحل التقدم نحو الطوباوية وصفاء الوعي، حتى وإن لم تجلب كارثة عنيفة، كان يمكن أن تؤدي في أي مرحلة إلى أن تحيد بالعالم المتيقظ نحو الفشل. كان من الممكن أن يكرس الذكاء البشري الفائق لدى الأفراد المخلصين وشجاعتهم وثباتهم لأغراض العالم التافهة والمضللة؛ ومن ثم ففي الحالات المتطرفة، كان من الممكن أن يتخطى العالم حدود التعقل حتى وإن ظل طوباويا اجتماعيا وحافظ عقليا على فردانية فائقة. وبجسد صحي رائع وعقل مجنون، يمكن أن يتسبب في إحداث ضرر بالغ بجيرانه.
لم تصبح هذه المأساة ممكنة إلا بعد استقرار أمر السفر بين الكواكب والنجوم. قبل ذلك بفترة طويلة، في مرحلة مبكرة من تاريخ المجرة، كان عدد الأنظمة الكوكبية صغيرا للغاية ولم يبلغ منها مرحلة الطوباوية سوى نصف دزينة من العوالم التي كانت موزعة في جميع أنحاء المجرة على مسافات بعيدة جدا بعضها من بعض. عاش كل من هذه العوالم حياته في عزلة شبه كاملة لم يخفف منها سوى اتصاله التخاطري المتقلقل مع أقرانه. وفي مرحلة متأخرة بعض الشيء من تلك المرحلة المبكرة، حين أتقن أبناء المجرة الأكبر هؤلاء تأسيس مجتمعهم وطبيعتهم البيولوجية وصاروا على أعتاب الفردانية الفائقة، وجهوا اهتمامهم إلى السفر بين الكواكب. تمكن الواحد تلو الآخر من السفر بالصواريخ في الفضاء، ونجحوا في تربية جماعات سكانية متخصصة في استعمار الكواكب المجاورة. وفي مراحل لاحقة، وهي المرحلة الوسطى في تاريخ المجرة، صار عدد الأنظمة الكوكبية أكبر كثيرا مما كان عليه في المرحلة المبكرة، ونجح عدد كبير من العوالم الذكية في الخروج من الأزمة النفسية العظيمة التي لم يتخطها قط الكثير من العوالم. وفي هذه الأثناء، كانت بعض عوالم «الجيل» الأكبر من العوالم اليقظة، تواجه بالفعل المشكلات الشديدة الصعوبة فيما يتعلق بالسفر بين النجوم لا الكواكب فحسب. لقد غيرت هذه القدرة الجديدة سمت تاريخ المجرة بأكمله إلى الأبد. وحتى الآن، بالرغم من الاستكشاف التخاطري الأولي الذي تقوم به العوالم الأكثر يقظة، صارت حياة المجرة بوجه عام هي حياة عدد من العوالم المنعزلة التي لم يكن لأي منها تأثير على الآخر. ومع تقدم السفر بين النجوم، صارت الطباع الكثيرة المتفرقة التي تميز سير العوالم تمتزج تدريجيا في دراما تضمها جميعا.
كان السفر داخل النظام الكوكبي الواحد يتم في البداية من خلال مركبات صاروخية تدفع بأنواع الوقود العادية. وفي جميع المحاولات المبكرة كانت إحدى الصعوبات الكبيرة هي خطر الاصطدام بالشهب. وحتى المركبات الأكثر كفاءة، وأكثرها مهارة في الطيران والسفر في المناطق التي كانت خالية بعض الشيء من هذه القذائف غير المرئية القاتلة، كان من الممكن أن تصطدم وتنصهر. ولم يمكن التغلب على المشكلة إلى أن اكتشفت السبل التي تفتح كنز الطاقة دون الذرية؛ إذ أصبح حينها من الممكن حماية المركبة عن طريق غلاف واسع الانتشار من الطاقة كان يغير من اتجاه الشهب أو يفجرها على مسافة بعيدة. وبصعوبة كبيرة، قد ابتكرت أيضا وسيلة مشابهة بعض الشيء لحماية السفن الفضائية وطواقمها من ذلك الوابل المستمر القاتل من الإشعاع الكوني.
وعلى العكس من السفر بين الكواكب، كان السفر بين النجوم مستحيلا حتى اكتشاف الطاقة دون الذرية. من حسن الحظ أن العثور على ذلك المصدر للطاقة لم يحدث إلا في فترة متأخرة من تقدم العالم، حين كانت العقلية قد وصلت إلى النضج الكافي لاستخدام تلك الأداة التي تعد أخطر الأدوات المادية على الإطلاق دون التسبب في كارثة أبدية، غير أن الكوارث قد حدثت بالفعل. إن العديد من العوالم قد انفجرت عن غير قصد، ودمرت الحضارة في بعضها لبعض الوقت. بالرغم من ذلك، فبعد وقت طال أو قصر، تمكنت غالبية العوالم العاقلة من ترويض هذا الجني الجبار وتسخيره للعمل على نطاق ضخم لا في الصناعة فحسب، بل في مشروعات ضخمة كتغيير مدارات الكواكب من أجل تحسين المناخ. وكانت هذه العملية الخطيرة والدقيقة تتم عن طريق تشغيل جهاز صاروخي ضخم يطلق الطاقة دون الذرية في تلك الأزمنة والأماكن حتى يتراكم الارتداد الصادر عن الجهاز بالتدريج ليحول مسار الكوكب إلى الاتجاه المرغوب.
كان السفر بين النجوم ينفذ في البداية من خلال فصل كوكب عن مداره الطبيعي من خلال سلسلة من حركات الدفع الصاروخية المعينة في المكان والزمان المناسبين؛ ومن ثم إطلاقه إلى الفضاء الخارجي بسرعة تزيد عن السرعات المعتادة للكواكب والنجوم. وقد كان من الضروري وجود ما هو أكثر من ذلك؛ إذ إن الحياة على كوكب لا شمس له كانت ستصبح مستحيلة. في الأسفار القصيرة بين النجوم، كان يتم التغلب على هذه الصعوبة في بعض الأحيان عن طريق توليد الطاقة دون الذرية من مادة الكوكب نفسها، أما الأسفار الطويلة التي تمتد لآلاف السنوات، كانت الطريقة الوحيدة هي تكوين شمس صناعية صغيرة وقذفها في الفضاء كأنها قمر متوهج للعالم الحي. ولهذا الغرض، كان يتم تقريب أحد الكواكب غير المأهولة من الكوكب الأم لتشكيل نظام ثنائي، ثم تصميم آلية للتحكم في تفكك ذرات الكوكب العديم الحياة من أجل توفير مصدر ثابت للضوء والحرارة. وبعد ذلك، يتم إطلاق الجسمين اللذين يدور كل منهما حول الآخر، بين النجوم.
قد تبدو هذه العملية الدقيقة مستحيلة للغاية. ولئن كان لدي من المجال ما يكفي لذكر التجارب التي استمرت على مدار زمن طويل، وما سبق تحقيق هذا الإنجاز من حوادث قد دمرت العالم، فلربما تلاشى تشكك القارئ. بالرغم من ذلك، فلا بد لي أن أصف حقبا طويلة بأكملها من المغامرة العلمية والشجاعة الشخصية في جمل قليلة. ويكفي القول إنه قبل إتقان هذه العملية، قد انجرفت العديد من العوالم المأهولة لتتجمد بعد ذلك في الفضاء، أو احترقت بفعل شمسها الصناعية.
إن النجوم بعيدة جدا بعضها عن بعض حتى إننا نقيس المسافات بينها بالسنين الضوئية. ولئن كانت هذه العوالم المسافرة قد تحركت بسرعات مناظرة لسرعات النجوم نفسها فحسب، لاستغرقت أقصر رحلة بين النجوم ملايين الأعوام، لكن لأن الفضاء الواقع بين النجوم لا يبذل أي مقاومة تقريبا على الجسم المتحرك؛ ومن ثم لا يفقد الزخم، فقد أصبح من الممكن للعالم المسافر أن يزيد من سرعته بما يفوق سرعة أسرع النجوم، وذلك من خلال إطالة مدة الدفع الصاروخي الأصلي لسنوات عديدة. لا شك أنه رغم أن الرحلات الأولى التي قامت بها كواكب طبيعية ثقيلة، كانت رائعة وفقا لمعاييرنا، علي أن أسرد في مرحلة لاحقة قصة رحلات الكواكب الاصطناعية الصغيرة التي كانت تتحرك بسرعة تبلغ تقريبا نصف سرعة الضوء. وبسبب بعض «آثار النسبية» لم يكن من الممكن زيادة السرعة بعد هذه النقطة. بالرغم من ذلك، فحتى هذه السرعة قد جعلت من السفر إلى النجوم القريبة أمرا يستحق القيام به في حالة وجود أنظمة كوكبية أخرى تقع في هذا النطاق. وينبغي أن نتذكر أن العالم المكتمل اليقظة لم يكن يحتاج إلى التفكير وفقا للفترات القصيرة كحياة الإنسان. وبالرغم من أن الأفراد قد يموتون في مثل هذا العالم، كان العالم العاقل نفسه خالدا على نحو مهم للغاية.
لقد كان من المعتاد أن يضع خططه لتشمل فترات تبلغ ملايين السنين.
Unknown page