قادنا طيراننا في إحدى المرات إلى الخارج حيث حدود المجرة وإلى الفراغ فيما وراءها. كانت النجوم القريبة تصبح لبعض الوقت أقل فأقل. كان نصف الكرة الخلفي من السماء قد أصبح الآن مكتظا بأضواء خافتة، أما أمامنا فقد امتد السواد خاليا من النجوم لا يقطعه سوى عدد قليل من بقع الضوء المنعزلة؛ شذرات قليلة منفصلة من المجرة، أو «المجرات الفرعية» من الكواكب. وبخلاف هذه البقع، كان الظلام تاما خلا نصف درزينة من البقع الباهتة التي كنا نعرف أنها أقرب المجرات الغريبة.
ظللنا ساكنين لفترة طويلة في الفراغ منبهرين بالمشهد. لقد كانت تجربة مؤثرة بلا شك أن نرى «كونا» بأكمله يمتد أمامنا ويحتوي على مليار نجم وربما الآلاف من العوالم المأهولة؛ وأن نعرف أن كل بقعة ضئيلة في السماء السوداء كانت هي نفسها «كونا» من هذا النوع، وأنه لا يزال هناك منها الملايين التي لا تظهر فقط بسبب بعدها الشديد.
أي أهمية كانت تمثلها هذه الضخامة والتعقيد الماديان؟ في نفسها، لم تكن تمثل في الظاهر شيئا سوى العبث والانعزال، لكننا قد قلنا لأنفسنا، متأثرين بالرهبة والأمل، إنها تعد بدرجة أكبر من التعقيد والحذق والتنوع في العالم المادي. كان ذلك وحده يكفي مبررا، غير أن هذا الوعد المذهل كان مرعبا أيضا بالرغم مما كان يثيره في النفس من إلهام.
كفرخ يتطلع ببصره من فوق حافة العش للمرة الأولى، ثم يعود إلى عشه الصغير مرة أخرى مختبئا من العالم الكبير، انبثقنا من وراء حدود ذلك العش الصغير من النجوم والذي ظل البشر يعرفونه على نحو خاطئ لفترة طويلة على أنه «الكون». والآن قد عدنا لندفن أنفسنا مرة أخرى في حدود مجرتنا الأصلية المريحة.
لما أثارت تجاربنا العديد من المشكلات النظرية التي لم نستطع حلها دون دراسة أكثر توسعا لعلم الفلك، قررنا أن نعود إلى الأرض الأخرى، لكن بعد بحث طويل وعقيم أدركنا أننا قد ضللنا موقعنا تماما. كانت النجوم كلها متشابهة بدرجة كبيرة فيما عدا أن القليل منها في هذه الحقبة المبكرة كانت قديمة ومعتدلة مثل الشمس الأخرى. وفي بحثنا الذي كنا نجريه بصورة عشوائية وبسرعة كبيرة للغاية، لم نجد كوكب بفالتو ولا كوكبي، ولا أي نظام شمسي آخر. محبطين، توقفنا مرة أخرى في الفضاء لنفكر في مأزقنا. في كل جانب، واجهنا سواد السماء الأبنوسي المرقط بالماسات بلغز كبير. أي شرارة من غبار النجوم هذا كله هو الشمس الأخرى؟ ومثلما هو المعتاد في سماء هذه الحقبة المبكرة، كانت خطوط من المادة السديمية ترى في جميع الاتجاهات، غير أن أشكالها كانت غير مألوفة ولم تجد نفعا في التوجيه.
لم يقلقنا أننا ضللنا طريقنا بين النجوم. كنا في غاية الابتهاج بمغامرتنا، وكان كل منا سببا لرفع الروح المعنوية لدى الآخر. فخبراتنا الحديثة قد أسرعت من حياتنا العقلية وزادت من تنظيم عقلينا معا. كان كل منا لا يزال يشعر بالآخر وبنفسه على أنهما كائنان منفصلان في معظم الأحيان، غير أن الجمع بين ذكرياتنا وطباعنا أو الدمج بينها، قد بلغ الآن درجة كبيرة، حتى إننا كثيرا ما كنا نغفل عن تبايننا. فعقلان بلا جسد يشغلان الموقع البصري نفسه، ويمتلكان الذكريات والرغبات نفسها، وكثيرا ما يقومان بالأفعال العقلية نفسها في الوقت نفسه، قلما يمكن تصور أنهما كائنان منفصلان. بالرغم من ذلك، فمن الغريب أيضا أن هذه الهوية النامية قد أصبحت على درجة من التعقيد بسبب التفاهم المتبادل والصحبة اللذين يزدادان شدة باستمرار.
إن اختراق أحدنا لعقل الآخر لم يزد من ثرائنا العقلي فحسب، بل ضاعفه؛ إذ إن الواحد منا لم يكن يعرف باطنه وباطن الآخر فحسب، بل كان يعرف أيضا التناغم الطباقي لدى كل منهما وعلاقته بالآخر. وبطريقة ما لا أستطيع وصفها بدقة، قد نتج عن اتحاد عقلينا بالفعل عقل ثالث، وبالرغم من أنه كان متقطعا، فقد كان على مستوى غير ملحوظ أكثر وعيا من أي منا في حالته المعتادة. كل منا، بل كلانا، قد «استيقظ» الآن ليصبح هذه الروح الفائقة. جميع الخبرات التي مر بها كل منا، قد اتخذت دلالة جديدة في ضوء الآخر، وأصبح عقلانا معا عقلا جديدا أكثر تبصرا وأكثر وعيا بالذات. في هذه الحالة من الصفاء الشديد، بدأنا، أو بالأحرى بدأ «الأنا» الجديد، بتمعن في استكشاف الإمكانيات النفسية لأنواع أخرى من الكيانات والعوالم الذكية. ومع القدرة الجديدة على التبصر، اكتشفت في وفي بفالتو تلك السمات الجوهرية للروح والسمات العرضية التي فرضها العالم المميز لكل منا عليه. وسرعان ما أثبتت هذه المغامرة الخيالية أنها وسيلة فعالة للغاية للبحث الكوني.
لقد بدأنا ندرك الآن بوضوح أكبر حقيقة طالما ارتبنا فيها. في رحلتي السابقة بين النجوم والتي أحضرتني إلى الأرض الأخرى، كنت قد استخدمت عن غير قصد طريقتين مختلفتين للسفر، وهما طريقة الطيران بلا جسد عبر الفضاء، وطريقة سأطلق عليها اسم «الجذب المادي». وقد تمثلت الثانية في الإسقاط التخاطري للعقل على نحو مباشر في عالم غريب، قد يكون بعيدا في الزمان والمكان، لكنه «يتلاءم» ذهنيا مع عقل المستكشف في وقت مغامرته. ومن الجلي أن هذه الطريقة هي التي أدت الدور الأكبر بالفعل في توجيهي إلى الأرض الأخرى. إن التشابه البارز بين سلالتينا قد شكل «جذبا ماديا» قويا كان فعالا بدرجة تتفوق كثيرا على فعالية تجولي العشوائي بأكمله بين النجوم. وهذه الطريقة هي التي كنا نمارسها أنا وبفالتو ونتقنها.
لاحظنا الآن أننا لم نعد في وضع السكون بل ننجرف ببطء. وقد راودنا أيضا شعور غريب بأننا في واقع الأمر على مقربة ذهنية من نوع ما مع كائنات ذكية غير مرئية، بالرغم من أننا كنا في ظاهر الأمر معزولين في صحراء شاسعة من النجوم والسدم. وإذ ركزنا على هذا الشعور بالحضور، وجدنا أن سرعتنا في الانجراف تزداد، وأننا إذا حاولنا بقوة تغيير مساره عن عمد، كنا في نهاية المطاف نعود ثانية إلى الاتجاه الأصلي فور أن تتوقف جهودنا. وسرعان ما تحول انجرافنا إلى طيران سريع. ومرة أخرى، تحولت النجوم الأمامية إلى اللون البنفسجي، والخلفية إلى اللون الأحمر. ومرة أخرى، اختفت كلها.
في ظلمة وصمت مطبقين، تناقشنا بشأن وضعنا. من الجلي أننا كنا الآن نجتاز الفضاء بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه. من المحتمل أيضا أننا كنا بطريقة غير مفهومة نجتاز الوقت. في الوقت نفسه، كان إحساسنا بالقرب من كائنات أخرى يشتد أكثر فأكثر، رغم أنه لم يقل إرباكا لنا. ومرة أخرى، ظهرت النجوم. وبالرغم من أنها راحت تسبح مرورا بنا كالشرار المتطاير، فقد كانت عديمة اللون وعادية. ثمة ضوء لامع كان يقع أمامنا مباشرة. تضخم، ثم صار ضياء وهاجا، ثم قرصا واضحا. وبمجهود من الإرادة، أبطأنا من سرعتنا، ثم درنا حول هذه الشمس بحذر، ورحنا نبحث هناك. ومما بعث فينا السرور أنها كانت مأهولة بالعديد من الحبات التي قد توجد بها حياة. مسترشدين بإحساسنا المبين بالحضور العقلي، اخترنا أحد هذه الكواكب، وهبطنا باتجاهه ببطء.
Unknown page