الضمير في أعجلهم يعود بحسب ظاهر السياق , والسياق إلى الوحوش لأنه كان اتخذهم أهلا , لا يبعد أنه كان يأكل معهم لشدة اختلاطه بهم , وكان يتأخر في مد اليد عنهم ترفعا لنفسه عن التجشع المذموم , ومما يدل على ذلك ما زعم الفرزدق (4) إن الذئب رأى ناره , فأتاه وأكل معه , وأنشد لذلك: ... [من الطويل] وأطلس عسال وما كان صاحبا ... دعوت لناري موهنا فأتاني
فلما أتى قلت: ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركأن
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1)
وما ذكرنا من مراد الشنفرى يشعر بعلو همته , وأنه يراقب مراعاة مكارم الأخلاق مع من لا يعيب , فكيف مع أبناء جنسه؟!
وهذا ليس شأن كل كريم ونجيب , ويمكن على بعد أن يريد به أبناء جنسه قبل مرافقة الوحوش , ويكون الضمير [25ظ] راجعا إلى ما يدل على عموم الأيدي.
استطراد:
أطلق بعض أشراف العرب (2) من سجن الخليفة (3) بالشام , وأهله في العراق , فمر بعجوز فاستضافها , فأضافته , فعند الإنصراف التفت إلى غلام معه , فقال: كم عندك من الدنانير؟
فقال الغلام: مئة دينار , قال: ادفعها إلى العجوز , فعند ذلك قال له الغلام: يا مولاي , أنها لا تعرفك , ويرضيها اليسير من ذلك , ومزارنا بعيد , ولا يبقى معنا شيء , فأن أمرتني أن أعطيها شيء من هذه الدنانير وأبقي شيئا , قال: يا هذا , أعطها الجميع , فإن لم تعرفني هذه العجوز , فأنا أعرف نفسي , فأرسل لها الجميع (4).
ومما شاهدنا في زمننا من ذوي المروءة والبسالة والنجدة , وال في بغداد يدعى بالوزير سليمان باشا (5) , ومن بعض مناقبه أنه جاءه رجل من الرقة (6) , وعليه ديون كثيرة , وكان من ذوي البيوت , فأمر له بإيفاء ديونه , وأجزل له العطاء.
Page 139