إن هؤلاء الوحوش في الأهلية كاملون , وعن ما يسوء من الحوادث وإظهارها مأمونون , لا يفشون مكنون ما أسر إليهم , ولا تترك نصرة الجاني بسبب جريرته لديهم , والمطلوب الأهم الأعظم من القربى هذان الوصفان , إذ بهما تتم الألفة وتنتظم , ويحسن جمع شمل الأحباب والخلان , ويقوى ركن الدفاع , ويكمل الإجتماع , فأراد الشاعر تفضيل هذه الوحوش على قومه بهذين الوصفين , وإظهار ما دعاه إلى الوحوش , وفيه إدماج لذمهم , وان السر لديهم غير مكتوم , وإن الجاني في ناديهم من النصرة محروم , وهذا عيب عظيم إذا كان من الأجانب , فكيف صدوره عن الأقارب؟!
تكميل:
في البيت من محاسن البديع التعريض , وهو أنه هنا عرض بذم قومه , حيث مدح هؤلاء الوحوش في حال مخاطبته قومه , بأنهم الأهل أي: لا أنتم حافظون الأسرار , لا أنتم الجاني بينهم غير مخذول , أي: لا أنتم , ويستفاد منه أن الشنفرى قد جنت عليه قومه جناية لم تجنها قوم بحيث ألجأته تلك الجناية إلى التعريض بذمهم , بل إلى هجر بني آدم كلهم , وإلا فالشنفرى لما فيه من علو الهمة [18ظ] لايرتكب هذا من غير سبب قوي , إذ من كان في صفاته لا يرضى أن ينتقص عشيرته , وينسب إليهم هذه الأوصاف دون غيرهم من أحياء العرب (1) , ومما يناسب ما ذكرنا قول ابن مقرب (2): [من البسيط]
وإن تغاضيت عن قومي فعن كرم ... مني وما ذنب كل الناس يغتفر
فما شأن اللبيب ذم عشيرته , إذ بهم ينال العز والشرف , وما السيف بلا ساعد , والمرء بعشيرته , ومما ورد في ذلك أن حمير الأكبر (3) لما أوصى ابنه هميسع بحفظ القرابة , وحسن السيرة , أوصاه بعشيرته كثيرا , ومن بعض ذلك قوله (4):
وعمك وابن العم دونك بعده يرد الأعادي الكاشحين ويدفع
وليس عقاب الطير يوما وإن بها تذل وتنقاد البغاث وتخضع
Page 124