197

Sacat Bayna Kutub

ساعات بين الكتب

Genres

ونرى أن «لدفج» ليس بالرجل الذي يكتب تاريخ المسيح؛ لأسباب ثلاثة؛ أولها: أنه إسرائيلي يكتب للمسيحيين في أمة لم تخلص فيها المودة بين العنصرين. والثاني: أنه قليل التقديس بفطرته، فهو إلى فهم رجال الحرب والعمل أقرب منه إلى فهم رجال القداسة والإيمان، والسبب الثالث: أنه اختار أسلوب القصص لترجمة أبطاله، وهو أسلوب لا يوافق ترجمة المسيح لقلة المعلومات المفصلة التي نعرفها عن حياته، وصعوبة الترجيح فيها بين احتمال واحد وسائر الاحتمالات الكثيرة، وخير للكاتب أن يجعل تاريخ المسيح بحثا يعرض فيه لكل رأي ولكل فرض من أن يجعله قصة يتقيد فيها ب «شخصية» محدودة تطرد جميع حوادثها على مثال مرسوم، فرينان وهو أقدر على القصص وعلى الامتزاج بحياة المسيح، لم يستغن عن البحث على هذا المنوال، ولم تكن القصة في كتابه إلا بمثابة السمط تتعلق عليه جميع المعلومات.

ولو عاش رينان إلى اليوم واطلع على المباحث الجديدة في الحفريات والآثار ومقابلة الأديان وما كتبه بعض المؤرخين - ولا سيما الألمان - في حقيقة المسيح التاريخية، لكان أكبر الظن أن يفرغ جزءا كبيرا من ترجمته لإثبات وجوده، قبل أن يشرع في تأليف قصته على حسب الوقائع التي كانت معروفة في زمانه، ولو أن «لدفج» اختار أسلوبا غير أسلوب القصص لكان أحرى به أن يتوفر على هذا البحث الطريف؛ لأنه بحث ألماني في معظم أسبابه وأسانيده، ولكنه تركه لأنه لا بد له من تركه ولا يسعه أن يقص ترجمة إنسان يشك في وجوده، فيحسن بنا ألا نتخطاه بعد أن أصبح كل كلام في تاريخ ذلك الرسول الكريم مشتملا على مناقشة مسهبة، أو موجزة في هذا الشك الغريب.

كم من الناس على ظهر الأرض يؤمنون بوجود المسيح ورسالته، بل يعدون الإيمان بوجوده ورسالته أساسا للحقيقة العظمى؛ حقيقة الأرض والسماء والحياة وما بعد الحياة؟ لا أقل من ألف مليون إنسان! ومع هذا يتسع الشك في عصرنا للتردد في وجود المسيح، بل تذهب طائفة من المؤرخين إلى حد الجزم بإنكاره، والقول القاطع بأنه لم يكن إلا أسطورة من أساطير المتقدمين، فإن لم يكن في هذا الشك إلا أنه أعجوبة الشكوك في حقائق دنيانا لكفى بذلك حجة للنظر فيها على هذا الاعتبار.

ولماذا تشك هذه الطائفة في وجود المسيح أو تجزم بإنكاره؟ ما هي شبهتها على حقيقته أو دليلها على أنه لم يظهر قط في هذا العالم؟ إنهم يقولون في ذلك كثيرا، ويأخذون تارة مأخذ الإثبات والتقرير، وتارة أخرى مأخذ النفي والإدحاض؛ ولكن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة «المثرية»، إذ كان الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم مبدأ الانقلاب الشمسي بدلا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث. وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي «تعمد» فيه السيد المسيح. على أن هذا اليوم أيضا كان عيد الإله «ديونيسيس» عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد «أوزيريس» عند المصريين، ولا يزال متخلفا في العادات المصرية إلى اليوم. ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة - وكان يوافق السادس من شهر يناير في التاريخ القديم - كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم ولا يزالون يحتفلون به في عصرنا هذا باسم «عيد الغطاس.» وقد اتخذت المسيحية اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارا لآلام السيد المسيح قبل الصليب، وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله «أتيس» إله الرعاة المولود من «نانا» العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي جب نفسه في هذا الموعد ، ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة.

وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسما مختارا لأمهات كثير من الآلهة والقديسين، مثل: أدونيس ابن ميره، وهرمز ابن مايا، وقيروش ابن مريانات، وموسى ابن مريم، وبوذا ابن مايا، وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذات معينة، ومما يجري في هذا المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حورس كانت رمزا في الكنائس الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر، وكان اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ماريس

Stellah Maris

فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه في الأسماء ، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس، والمصريون يعتقدون في رع، والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس وأوزيريس: إن الحمل يحصل في هذه الأحوال من الأذن، وهو ما يفسر صورة العذراء في القرون الوسطى، إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى إحدى أذنيها، وقال «ترتوليان» إن شعاعا سماويا هبط على العذراء فحملت بالسيد المسيح، أما التكفير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، وأقربه إلى موطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته، وبعثه في أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات، فكن يندبنه على باب الهيكل، وأنبهن على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن رجلا يسمى يسوع قتل وعلق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة.

والعشاء الرباني كان معروفا في عبادة مثرا، على الطريقة التي عرف بها في المسيحية، بل كان الخبز الذي يتناوله عباد مثرا في ذلك العشاء يصنع على شكل الصليب، وقد أسف جوستن مارتر في سنة 140 لهذه المشابهة، وعدها مكيدة شيطانية لتضليل المؤمنين.

والمعجزة الأولى للمسيح وهي تحويل الماء خمرا معروفة في عبادة ديونيسيس إله الخمر وإله الشمس، ومن حيواناته المقدسة الجمل، والحمار، وعلى الحمار كان ركوبه حتى قيل: إنه كان له حماران فجعلهما نجمين في السماء، وبهذا الرمز يرمز البابليون إلى مدار السرطان، فالخلط بين المسيح وديونيسيس في ركوب الأتان، وتحويل الماء موضع نظر، ومثله الخلط بينهما في المزود الذي وضعا فيه عند الولادة كما جاء في إنجيل لوقا حيث قال: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته، فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم؛ لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر، وقمطته وأضجعته في المزود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.» أما الإحصاء في هذا التاريخ فلم يرد له أي ذكر في تراجم أوغسطس، ولم تجر العادة قط في دولة الرومان أن يكلف الناس السفر من بلادهم إلى البلاد التي عاش فيها أجدادهم الأسبقون؛ ليكتبوا أسماءهم هناك، فالرواية مستهدفة للملاحظة من عدة جهات.

ولم يتفق على المكان الذي ولد فيه المسيح كما لم يتفق على الزمان الذي ولد فيه؛ فمن قائل إنه ولد في الناصرة، ومن قائل إنه ولد في بيت لحم. والذين يقولون إنه ولد في بيت لحم يذهبون إلى هذا القول لتأييد النبوءة التي تنبئ بظهور المسيح من نسل داود، وهو في بيت لحم لا الناصرة، وجاء في إنجيل متى أن يوسف النجار رأى في المنام أن هيرود الطاغية سيقتل كل طفل يولد في بيت لحم لذلك العام، مع أن هيرود مات في السنة الرابعة قبل الميلاد، ومع أن يوسفيوس المؤرخ لم يذكر خبر هذه المذبحة فيما أحصاه لهيرود من الآثام، وقد سبقت روايات مثل هذه عن النمروذ وفرعون مصر وغيرهما من الأمراء الذين أنذرتهم النبوءات بظهور أعدائهم قبل مولدهم؛ فهي روايات لا تدل على شيء يعتمد عليه التاريخ، ولم تكتب هي ولا كتب غيرها مما ورد في الأناجيل إلا بعد عهد المسيح بعشرات السنين، أما الذين عاصروه أو قاربوه غير التلاميذ فلم يذكروا عنه شيئا ولم يدونوا له خبرا حتى عجب فوتيوس بطريق القسطنطينية حين قرأ في القرن التاسع تاريخ جستس الطبري المكتوب بعد المسيح ببضع سنوات، فوجده غفلا من ذكره وهو مولود حيث ولد المسيح في الجليل، ولم يشر بليني الأكبر بكلمة واحدة إلى الخوارق التي نسبت إليه، وهو كثير العناية بجمع الخوارق في تاريخه الطبيعي المؤلف بعد المسيح بثلاثين أو أربعين سنة، وثبت أن النسخ الصحيحة من تاريخ يوسفيوس المنتهي بالسنة الثالثة والتسعين بعد الميلاد خلو من الفقرتين المشار فيهما إلى المسيح على عجل واقتضاب ، وأن هاتين الفقرتين مدسوستان على بعض النسخ في القرون الوسطى، ويقال مثل ذلك في كتب أخرى وردت فيها مثل هذه الإشارات المبهمة بصيغة لا تثبت على المضاهاة والتمحيص.

Unknown page