وكان عندما وصل كولار إلى منزله واقفا أمام مرآة في غرفة النوم يصلح صبغة شعره، وهو يقول: إني منذ أشهر في باريس، وأشغالي سائرة على محور النجاح الأكيد، فإذا دامت الأبالسة على الصدق في خدمتي، فإن ملايين كرماروت ستكون لي وحدي.
تبا لك يا أرمان دي كركاز من بله يحب البشر، وينفق أمواله على المساكين، طب نفسا فإنك سترد تلك الملايين المؤتمن عليها إلى السير فيليام الذي عرف كيف يغير ملامحه، فلا تستطيع أن تعرف أنه أخوك العزيز أندريا الذي اختلست أمواله بحجة أن أباه سرق أموال أبيك.
أما كولار فإنه شديد الذكاء، وهو وإن كان لم يخدمني في لوندرا خدمات جليلة، فإنه كان غريبا فيها، أما الآن فهو في موطنه، ويعرف خفايا باريس كما يعرف خفايا منزله، فلا شك أن هذه العصابة التي ألفها سيكون لي منها خير فائدة، وقد ظهر من أعمالها إلى الآن ما يبشر بالنجاح الأكيد.
وفيما هو يناجي نفسه بمثل هذه الأحاديث إذ فتح الباب ودخل كولار، فحياه ثم جلس على الكرسي بالقرب منه، ودار بينهما الحديث الآتي:
قال كولار: إني أتيت لأخبرك عن أمور مهمة توفقت للوقوف عليها بواسطة رجالي الذين يشتغلون بالدقة والنظام. - أتظن ذلك؟ - هذا لا ريب فيه، ودليلي عليه أننا أصبحنا على اليقين من أن مدام بيرابو هي ذات تريزا التي نبحث عنها. - أصحيح ما تقول؟ - نعم، وإن ابنتها هرمين هي ابنة كرماروت صاحب الملايين، وليست بابنة بيرابو كما هو المتعارف عند الناس. - أرى من هنا يجب أن تبتدئ الرواية؛ فإن بيرابو شديد البخل، وإذا وعدناه بمليون فهو لا يرفض أن يزوج ابنته، ثم نظر إلى المرآة مبتسما وقال: أما ابنته فلا إخالها ترفض من كان مثلي زوجا لها. - إنما للصبية عشيق، وسيتزوج بها بعد خمسة عشر يوما كما علمت.
فاصفر وجه أندريا اصفرار اليأس، وقال: هذا محال. - إن ما أخبرتك به هو الحقيقة بعينها، وإن خطيب هرمين هو موظف في الوزارة الخارجية. - هل هو غني؟ - ليس له دراهم، ولكنه محبوب. - ما اسمه؟ - فرناند روشي. - أين منزله؟ - في شارع باريس.
فأخذ أندريا دفترا صغيرا، وكتب فيه بضعة سطور بالحرف المصري القديم، ثم سكن اضطرابه فقال: وما عندك وراء هذه الأخبار؟ - قبل كل شيء أحب أن أخبرك عن صداقة عقدتها حديثا مع رجل نجار. - لماذا؟ - لهيام قلبي بفتاة شغفت لبي، وأخذت بمجامع قلبي. - أنحن الآن بمعرض الغرام يا كولار؟ أتسمح حالتنا الحاضرة أن نعشق ونهيم؟ - قر بالا يا سيدي، فإن ذلك لا يشغلني فترة عن واجب خدمتك. - حسنا، ولكن أية صلة بين هيامك بتلك الفتاة وبين مصادقتك لذلك النجار. - أصغ إلي يا سيدي، إني لقيت حديثا فتاة جميلة الوجه، طاهرة القلب، عفيفة النفس، فهامت بها روحي وحن إليها قلبي، وبحثت عنها فعلمت أنها مخطوبة، ومن المقرر أن من يحاصر قوما يجتهد عند شبوب الحرب أن تدمر قلاع أعدائه، ويقطع كل مدد عنهم كي يجبرهم على التسليم؛ ولذلك عقدت تلك الصداقة مع هذا النجار الذي هو خطيبها، ولا أريد بذلك إلا فساد أخلاقه طمعا بأن تنفر عنه خطيبته سريز، أما هذا الشاب فإنه يدعى ليون رولاند، وله صداقة مع فرناند روشي خطيب هرمين.
فأظهر أندريا علائم الرضى، وقال: تمم حديثك، فقد بزغ لي منه نور من الأمل.
فقال كولار: وقد ذهبت أمس لزيارة ليون في محل شغله، فبينما أنا عنده إذ جاءه فرناند وأخبر صديقه والفرح ملء فؤاده بجميع ما كان من خطيبته وأمها وأبيها، وأنه سيتزوج بعد خمسة عشر يوما، وكيف أن بيرابو رفض أولا أن يزوج ابنته من فرناند حرصا على المهر، إلى أن تنازلت هرمين عن ذاك المال.
فاصفر وجه أندريا وقال: إننا في أحرج المواقف وأشدها، ولا أصعب من نزع الهوى من قلب فتاة تحب. - أصغ إلي، فلم أنته بعد من تقريري، واعلم أن لسريز أختا بغيا وافرة المال، وقد تهتكت في حب فرناند ولم تجد صبرا عنه.
Unknown page