وكأن هذه الكلمات قد فعلت بالقائد فعل الكهربائية بالأجسام، فاضطرب عند سماعها كاضطراب الريشة في مهب الريح، ولكن ذلك مر بأسرع من التصور، فلم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من الكدر، واقترب من أرمان مصغيا إليه، فقال أرمان: أنت يا خير من عرفته في أيامي، إنك ستكون سند تلك الأرملة، ووالد ذلك الطفل الصغير.
فاحمر وجه القائد، وبرقت أسرة وجهه، غير أن أرمان لم ينتبه إلى ذلك، فمضى في حديثه يقول: إني لا أجهل سابق غرامك بامرأتي منذ كانت تدعى باسم ذويها، وإنك تذكر يوم خلبت قلبينا بآدابها، وتزاحمنا على حبها، كيف تركنا لها الخيار في انتخاب أحدنا بعلا لها، فكنت يومئذ أوفر منك حظا، واختارتني لها قرينا برضاك، فلم يكن ذلك ليقطع صلات المودة بيننا؛ بل استحكمت في أثره علائق الوئام، واستوثقت عرى الإخاء؛ مما دعاني إلى شكرك في حينه شكر محب عرف سر الولاء، ودعا لك الله في صلواته إذ كنت السبب في ما وصل إليه من ذلك الهناء.
والآن فإن ذلك الزوج الرءوف سيزج في ظلمات الأبدية، وسيغادر تلك المرأة أرملة لا نصير لها إلاك، ولا رجاء لها سواك، فأنت ستكون بعدي زوج تلك الأرملة؛ لتكون أبا لذلك اليتيم.
نعم، إنك ستتزوجها من بعدي، وهذه وصيتي الأخيرة كتبتها عند نشوب هذه الحرب، وقد تركت لك بها نصف ثروتي، أما الآن فإنك ستقتسمها مع امرأتي وولدي؛ لأني أثق بك وبإخلاصك، ولا ريب عندي بأنك ستنفذ إرادة محبتك الأخيرة. قال ذلك ومد يده السليمة إلى جيب صدرته، فأخذ منها غلافا ضخما وأعطاه لفيليبون.
فاصفر وجه القائد، وأخذ الغلاف بيد ترتجف وهو يقول: كن مطمئنا أيها الصديق، فسأمتثل لأمرك إذا أصبت بمكروه، ولكنك ستبرأ من جراحك، وستعيش لامرأتك التي طبعت على قلبي خير أثر من الاحترام.
فتبسم أرمان تبسم القانط الواثق بدنو الأجل، ولم ينبس ببنت شفة، بل تأوه وأطبق عينيه، وقد غلبه النعاس، فقال فيليبون لبستيان: لندعه ينام بضع ساعات نتناوب بها السهر عليه. ثم أضجعاه بقرب النار وغطياه بما كان عليهما من الثياب، فلم تمر دقيقة حتى سمع غطيطه.
فجلس بستيان بقرب رأسه، وجعل يزيد الضرم كلما أخمدت النار أو كادت، وهو يحاذر من وقوع الشرر عليه، ويكاد يذوب حنوا على مولاه.
أما فيليبون فكان غارقا في لجج التصورات، ملقيا بنظره إلى الأرض وهو ينكتها بحسامه الطويل، وكان يقطع تصوراته من حين إلى حين ناظرا إلى أرمان نظرة احتقار وانتقام، وإلى بستيان نظرة حذر وتحسب، ولا بد لنا في سياق هذا الحديث من الإلماح إلى ماضي هذا الرجل الذي كان يحبه أرمان محبة إخاء، ويثق به ثقة عمياء، وهو لو مثلت صورة اللؤم لما مثلت بغير رسمه، نقول: إنه كان فاسد الأخلاق، كثير اللين والمكر، وهو في الأصل من رعاع الطليان، تطوع في الجيش الفرنسي فلم يكن أصحابه على فقره المدقع إلا من أصحاب الملايين.
ولم يمض عليه زمن يسير حتى ارتقى إلى رتبة قائد لفرط تحيله، ولاحتياج الجيش إلى قواد لا لبأسه وإقدامه، فإنه كان يستر جبنه ومكره ببراقع من الرثاء.
وقد ارتبط مع أرمان منذ خمس عشرة سنة برابط متين من الوداد حتى أصبحا لا يفترقان، وقد لقيا منذ ثلاثة أعوام مرت على المعركة التي نحن بصددها السيدة هيلانة ديران، ابنة أحد كبار القواد، وكانت بارعة في الجمال فعلق بها الاثنان، أما هي فاختارت أرمان بعلا لها على ما ذكرناه آنفا، فثارت الغيرة بفيليبون، وأضمر الشر لرفيقه كاتما أحقاده مترقبا فرص الانتقام، حتى إنه أطلق عليه الرصاص في مواقع كثيرة فلم يصبه بأذى، ولم يوفق لقتله، وهو في كل ذلك يظهر له التودد، وتزيد أحقاده بازدياد محبة أرمان له شأن من طبع على الخسة والدناءة.
Unknown page