أما فرناند فإنه لم يعبأ بهذا العذر الملفق، وأيقن أن السبب في اضطراب رئيسه هو غير ما قال، فأوجس خيفة من هذا الانقلاب، وعلم أن امرأته لا تستطيع أن تحادثه في شأنه وهو على مثل هذه الحال، ولكنه لم يلبث أن تغير ظنه باستحالة رئيسه من الانقباض إلى الهشاشة، مما يدل على أنه اهتدى إلى طريقة تمكنه من غواية سريز.
وعندما فرغوا من الطعام دخل فرناند إلى قاعة الكتابة، ثم تبعته هرمين بإشارة أمها، ولما خلا المكان ببيرابو وامرأته قالت له: أتسمح لي أن أحادثك بشأن هام؟ - وما عسى أن يكون هذا المهم؟ - إني أريد أن أحادثك بشأن ابنتي التي بلغت التاسعة عشر من عمرها، أي إنها بلغت سن الزواج. - تريدين أن تزوجي ابنتك؟ ولماذا؟ - لأننا لا ندوم لها. - ليكن، ولكن يجب أن نجد لها زوجا. - إن الزوج موجود. - هل هو غني؟ - كلا، ولكن مستقبله حسن.
فهز بيرابو كتفه وقال: ولكن هذا لا يكفي. - إنما هرمين تحبه بقدر ما يحبها. - ما اسمه؟ - إنك تعرفه وتقدره، فهو فرناند.
فوثب بيرابو عن كرسيه وقال بتعجب واحتقار: أزوج ابنتي من رجل لا مستقبل له ولا مال، ولا يزيد راتبه على الألفي فرنك. إنك لا ريب قد جننت؛ فإن مثل هذه الآراء لا تصدر عن العقلاء، وإذا كنت ظننت أني أصادق على هذا الزواج، فإن نفسك قد خدعتك فلا تحلمي به، فإنه لا يكون ولن يكون ما زلت في قيد الحياة.
ثم جعل يمشي في أرض الغرفة ذهابا وإيابا بخطوة غير موزونة، وهو يعثر بما تصادفه قدماه، ولا ينتبه كمن به جنة أو ضرب من اللمم، أما امرأته فكانت جالسة بالقرب من المستوقد، فلما سمعت ما كان من جوابه أخذت تشهق وتنتحب كالأطفال، ورآها والدمع يتساقط من عينيها فقال: إنك تبكين لكوني رفضت أن أزوج ابنتك من رجل لا مال له، في حين كان يجب عليك أن تشكريني لغيرتي على ابنتك التي هي ليست بابنتي، بل ابنة الصدفة، بل ابنة الزيغ والغي.
فوقع هذا الكلام على تريزا وقوع الصاعقة، ولم تكد تسمعه حتى وقفت وقد التهبت عيناها من الغيظ، وقالت: إنك تهينني، وإنك من أسفل الرجال.
فعلم بيرابو أنه قد أفرط في الإساءة إليها، وحاول إصلاح ما فسد، فقال لها بلطف: تلك بادرة بدرت مني، ولكنك أنت دفعتيني إلى هذا الحد.
فقالت له تريزا: إنك تعلم أني كنت منذ عشرين سنة ابنة نقية طاهرة، ولم أكن قط بغيا، وأني كنت في إحدى الليالي المشئومة في فندق على مرحلة من تولوز مع أمي التي وصف لها الأطباء التجول، فاغتصبني فيه أحد الجنود الأشرار وعلقت منه بهرمين، وقد اعترفت لك اعترافا جليا في كل ذلك عندما طلبت أن تتزوج بي طمعا بمالي، وقدمت لك ابنتي النقية فأخذتها بين ذراعيك وقلت لي: «طيبي نفسا، فسأكون أباها.» - وماذا رأيت بأقوالي؟ ألم أفي بوعدي إلى الآن بشأن هرمين؟ أعندك شك بأني أبوها؟ أيعلم أحد من الناس حقيقة السر؟ - كلا، ولكن هذه الابنة التي وعدتها أن تحبها كما تحب ولدك تسائل نفسها في كل حين: كيف يكون الرجل أبي، وكيف يعاملني بقسوة ونفور بخلاف ما يعامل به أختي؟ - ذلك لأني أفضل عليها أختها، وهي ابنتي، وهذا طبيعي معقول إنما ...
فأوقفته عن الكلام بنظرة ازدراء، وقالت: إنها كما كانت تستغرب نفورك منها كانت تعجب أيضا عندما تراني باكية العين، وتعلم أنك أنت السبب في هذه الدموع التي كنت أذرفها في خلوتي ولا يعلم بها غير الله.
فضرب الأرض برجليه من الغضب، وقال: إنك تتهمينني بما أنا بريء منه، فإني لم أسئ إليك، ولم أغتصب أموالك، فإنك إذا كنت أعطيتني مالا فقد استعضت عنه باسمي الشريف الذي ستر زلتك، ودفع عنك عار الغواية، فليس لك علي شيء بعد أن غسلت باقترانك بي ذلك العار. - إنك منخدع بما يوسوس لك ضميرك؛ لأنه يوجد شيء تفضله الأم على راحتها وهنائها ونفسها وشرفها، وهو هناء ولدها، ولقد رأيت مني امرأة صبورا طائعة منخفضة الرأس لا تخالف لك أمرا، ولا تعصي لك إرادة، وتسأل لك العفو من الله عندما تسيء إليها، ولكن هذه الإساءة كانت للأم، أما وقد أردت أن تسيء إلى ولدها، فإن هذا الرأس المنخفض سيرتفع، وهذه النفس الفاترة ستنشط وتدفع عن ولدها كل مكروه ... إن هرمين تحب فرناند وهو رجل حسن الأخلاق شريف النفس بعيد منال الهمة، وأنت الذي تصفه بهذه الصفات، فما لك الآن تناقض نفسك؟ وما الذي يمنعك عن الرضى بهذا الزواج؟ - يمنعني فقره المدقع. - إنك عندما تزوجت بي لم تكن أيسر منه مالا، ولا أوسع حالا.
Unknown page