أجابت هرمين قائلة: إن أمي راضية عن حبنا، ولا تمانع في زواجنا؛ لما تعلمه من كرم أخلاقك، وحسن مستقبلك، ولكنها تخشى معارضة أبي.
فأحنى فرناند رأسه بحزن وكآبة وقال: إني اختبرت أباك، وأنا أعلم أنه سيرفض طلبي بالنظر لفقري، وهو يعلم أن لا رجاء لي إلا من مستقبلي الروائي.
فقاطعته هرمين وقالت له: إصغ إلي، إن أمي سألتني بالأمس إذا كنت على ثقة من حبك. - آه يا هرمين، أعندك ريب في ذلك؟ - حاشاي أن أشك بصدق ودادك، ولكني أريد أن أقول إن أمي لها نفوذ على أبي، وهي تحبني حبا شديدا، وحيث إنها وثقت من صدق حبك لي بعد أن ثبت لها ذلك، فهي تبذل جهدها في إقناعه. - ومتى يكون ذلك؟ - في هذا المساء.
وعندها دخلت أمها فعانقت هرمين بحنو، ثم نظرت إلى فرناند وقالت له: أحقيقي يا فرناند أنك تحبها؟
فلم يجبها فرناند بحرف، ولكنه ركع أمامها ونظر إلى هرمين نظرة تكلمت عن فؤاده بأفصح لسان.
فارتعشت تريزا، وقد أيقنت من صدق حبه، ثم أنهضته ووضعت يده بيد ابنتها وهي تقول: إني لا أعترض في هناء ابنتي، وأنت يا فرناند إنك ستدخل مع هرمين إلى غرفة الشغل بعد العشاء، وتدعني في خلوة مع أبيها.
ثم تركت العاشقين يتناغيان ويتناجيان، وانصرفت إلى إدارة شئونها البيتية، فلم يمر بهما أحلى من تلك الخلوة، ولم يشعرا بأطيب من تلك الساعة، إلى أن أيقظهما من تلك الأحلام السعيدة دخول المسيو بيرابو، فلم ينظرا إليه حتى أيقنا أنه مصاب بحادثة أضاعت حواسه؛ لأنه كان شديد الاضطراب. (5) كينيون
بينما كانت باركارا تقفو أثر فرناند كانت سريز تسير بطاقة الزهر إلى المعمل، وهي تذهب من شارع إلى آخر فتهيج النفوس وتفتن العقول، وقد دارت بها العيون كالنطاق، وما من أحد كان يراها إلا ويدهش من محاسنها، ويسكر بجمالها العجيب فيقرظه بما يحضره من رقيق الكلام ورائق المعاني، ولكن أذنها لم تكن تصغي لمثل هذه الأحاديث، وقلبها لم يكن يحفل بمثل هذا المديح؛ لما كان يشغلها من أماني نفسها وحبها لخطيبها ليون، فكانت تمشي بوقار واحتشام لا تسمع حديث الأفواه ولا تفهم لغة العيون، إلى أن وصلت إلى المعمل فأودعت فيه الطاقة، ثم قبضت أجرتها، وأخذت شغلا جديدا، وبدلا من أن تعود إلى منزلها ذهبت في شارع شابون حيث يشتغل خطيبها، وهي تقول: كم أكون سعيدة إذا اتفق لي أن أراه؟
أما ليون رولاند، فإنه كان شابا يبلغ الثلاثين من العمر، أشقر الشعر، ضخم الجثة، قوي الأعصاب، ولم يكن جميل الوجه، غير أنه كان صافي السريرة طاهر القلب حسن النية، عاملا نشيطا شريف الأخلاق، وقد اتفق أنه حين مرور سريز كان واقفا بباب الحانوت الذي يشتغل فيه.
ولما رآها مارة أسرع إليها وسلم عليها، ونفسه تكاد تطير شعاعا من بهجة لقائها، ثم شكرها لمرورها بهذا الشارع، فقالت وقد صبغ الخجل وجنتيها: إني لم أمر من هنا إلا على أمل أن أراك. - قد صدق ظنك، ولو لم تمري من هنا الآن لكنت قصدتك في هذا المساء؛ لأنه يجب أن أحادثك في شأن مهم.
Unknown page