وجلست المركيزة بإزاء سرير هذه الصديقة الكاذبة تنتابها الهواجس والأفكار، وكانت نوافذ الغرفة مقفلة بأمر الطبيب، فبينما المركيزة تجيل نظرها، رأت نور مصباح يضيء في إحدى غرف المنزل المجاور، فعلمت أن النور في منزل شاروبيم وأنه لا بد أن يكون فيه، فجعل فؤادها يضطرب اضطراب ذلك النور. ثم انطفأ النور وساد السكوت.
وبعد هنيهة سمعت وقع أقدام ووجف فؤادها، وحدثها قلبها أن القادم هو شاروبيم، فما طال انتظارها حتى صدق ظنها، ورأت شاروبيم داخلا وقبعته بيده، فأظهر الانذهال حين رآها، ثم دنا منها فحياها باحترام وقال: إني عدت الآن إلى منزلي يا سيدتي فأخبروني أن مدام ملاسيس في خطر شديد، فلم يسعني إلا الإسراع للاطمئنان عنها، وكنت أرجو أن أرى خادمتها غير أني رأيت الأبواب مفتوحة، ولم أر أحدا فتقدمت حتى بلغت غرفتها وأنا لا أعلم شيئا حتى الآن، فاصفر وجه المركيزة، وأوشك لسانها أن ينعقد مما تولاها من الاضطراب، غير أنها تغلبت على عواطفها وقالت : أشكرك يا سيدي لاهتمامك بأمر صديقتي، وهي الآن نائمة كما ترى، وأرجو أن يكون نومها دليل خير.
فانحنى شاروبيم شاكرا ثم قال: إذا كان الأمر كذلك، فأذني لي يا سيدتي بالانصراف.
وقد قال هذا القول وهو يؤمل أن تستوقفه، غير أن المركيزة لم تحقق أمانيه، بل إنها ردت له التحية بأحسن منها، فمشى شاروبيم مشية القلق المضطرب، حتى إذا وصل إلى الباب خطر له أن يعود، فأقفل الباب وعاد إلى المركيزة وهي تكاد تسقط من الاضطراب، وقال لها: عفوك يا سيدتي، فإني لا أستطيع الذهاب قبل أن أبوح لك بخطأ ارتكبته.
فأجفلت المركيزة وسألته: أي خطأ؟
فقال شاروبيم بصوت تكلف فيه لهجة الاضطراب: خطأ كذبي عليك الآن، نعم يا سيدتي فلقد كذبت عليك. ثم سكت وجعل ينظر إليها كي يعلم ما يكون من تأثيرها، فرآها قد سقطت على كرسيها كأن رجليها لم تقويا على حملها، غير أنها ما لبثت أن استقرت على الكرسي حتى هبت لها قوة من لدن السماء، فتمكنت من إخفاء اضطرابها وأجابته بسكينة: لا أعلم يا سيدي أي كذب تعني، فتفضل بالجلوس وقل ما تشاء؛ فإني مصغية إليك.
فلبث شاروبيم واقفا وقد تلبس بلباس الحزن والسويداء، وقال: إني عدت إلى منزلي وعرفت بمرض جارتي الآن كما قلت لك، غير أني ما أتيت لمنزلها بغية السؤال عنها، بل لدافع أشد وهو أني علمت يا سيدتي من بواب المنزل أن مدام ملاسيس مريضة وأنك عندها.
فحاولت المركيزة أن تعترضه وتوقفه عند حده، فقال لها شاروبيم بصوت الملتمس: بالله يا سيدتي ألا ما أصغيت لي إلى النهاية، فإني اختلائي بك بعد الآن محال، وإذا لم أخبرك بأحزاني، وأبوح لك بما أقدمت عليه من الجرأة، فلا أستطيعه بعد؛ لأني سأودع باريس بل أوروبا بأسرها وداعا أبديا بعد ثمانية أيام.
فوجف فؤاد المركيزة وقالت: أتسافر؟ - نعم، ولا أحمل في قلبي غير حب واحد قد تزول حياتي ولا يزول، وإن تلك السيدة التي أحببتها لا يفصل بيني وبينها غير تلك الهوة العميقة، وهي طهارتها وفضيلتها لأنها غير مطلقة القياد.
ثم دنا خطوة منها فركع أمامها وقال: سيدتي، إني لن أراك بعد الآن، وقد ينقضي العمر ولا يذكر اسمي أمامك، غير أنك إذا خطر لك في ساعات خلوتك خاطر حزن، فاذكري بين هذه الأحزان ذلك الرجل التعس الجاثي أمامك، لا يسألك غير أن تأذني له بلثم أطراف ثوبك.
Unknown page