فاصفر المركيز اصفرار الأموات، وقال له: وبعد ذلك؟ - لا حاجة إلى أن أقول لك شيئا بعد ذلك، فإن الرجل الذي أحبته وأقدمت على الموت من أجله هو أنت.
فوقف المركيز عند سماع كلمة روكامبول الأخيرة، ولكن رجليه وهنا حتى أوشك أن يسقط، فأسند يده على الكرسي كي لا يقع.
25
وكان بين الرجلين سكوت طويل خشي روكامبول على إثره أن يصاب المركيز بموت فجائي، فتخسر الجمعية السرية أملها الوحيد، وهو الملايين الخمسة التي وعدت الهندية بدفعها لأندريا، ولكنه لم يلبث هنيهة حتى تبدل خوفه بالانذهال، فإنه رأى المركيز زال عنه التجهم وعاد إلى السكينة، فقال لروكامبول: ألم تخبرك ابنة عمي باسم السم الذي شربته؟ - نعم، ولكني لا أذكر بالتدقيق لغرابته، فقد قالت أنه خلاصة عصير ورق شجر يدعى «مانسانيليه» ينبت في جزائر الأنتيل، وأنه ممزوج بورق شجر يدعى «ليلياس».
فافتكر المركيز هنيهة ثم قال ببرود: لقد صدقت ابنة عمي، فلا يوجد لهذا السم إلا دواء واحد، ولا يوجد هذا الدواء إلا في الهند. ثم جعل يقص على روكامبول تأثير هذا السم إلى أن قال عن دوائه، حجر أزرق نادر الوجود لا يوجد إلا في أحشاء الأفاعي التي لها ثلاثة رءوس، تبدو منها بشكل قسم مثلث الزوايا، وهي سوداء الظهر وبطنها ذو لون أصفر براق كلون الذهب، فلا يوجد إلا في نواحي لاهور وفيرايور، على أن هذا الحجر الغريب لا يوجد في أحشاء جميع هذه الأفاعي، بل إنه شديد الندور فيها، حتى إنه لا يكاد يوجد غير حجر واحد بين أحشاء عشر حيات؛ ولهذا فقد غلا ثمن هذا الحجر حتى إنه يبلغ في بلاده ألفي جنيه، ولا يوجد منه إلا لدى بعض الأفراد، فإذا شرب أحد الناس مثل هذا السم الذي شربته ابنة عمي فإنه لا علاج له إلا هذا الحجر، وذلك أنه يوضع في قدح ماء فتنحل أجزاؤه في الماء ويصبح أزرق بلون الحجر المذاب فيه، فإذا شرب المسموم المزيج شفي للحال، ولكن لشفائه شرطا وهو أن هذا الدواء لا يؤثر إلا بعد أن يمر بالمسموم سبعة أيام، وإلا فلا يكون له شيء من التأثير.
فقاطعه روكامبول وقد اضطرب لما رآه من بروده، وقال له: تسمح لي يا سيدي أن أظهر انذهالي مما أراه منك؟ - لماذا؟ - لأني أخبرك أن ابنة عمك قد تجرعت السم وأنها أرادت الموت من أجلك، وإن كنت بريئا من انتحارها، وأنك تعلم أنه لا يوجد للسم الذي شربته إلا دواء واحد، وأن هذا الدواء لا يوجد منه في هذه البلاد، وأنك تعلم جميع هذا يا سيدي، وبدلا أن تيأس لنكد هذه الفتاة ويضيع رشدك لمصابها، أراك تحدثني بتاريخ هذا السم وترياقه دون أن يبدو منك شيء من الاكتراث.
فابتسم المركيز وقال: إن كلمة واحدة تبطل عجبك، وهي أن المركيزة مخطئة بزعمها أن الحجر لا يوجد منه في باريس، ثم مد يده اليسرى وقال لمحادثه، انظر إلى هذا الخاتم الثخين الذي ألبسه في خنصري، وإلى هذا الحجر فيه الذي يشبه الفيروز.
فنظر إليه روكامبول وقال: ما هذا الحجر الأزرق؟ - هو ترياق ذلك السم، وقد اشتريته حين كنت في الهند، وذلك منذ اثني عشر عاما، ولم يخطر لي في بال أنني سأشفي بمذوبه ابنة عمي.
ثم نهض فنهض معه روكامبول وخرج الاثنان إلى منزل الهندية، وفيما هما على الطريق قال له المركيز: إني لا أجد بدا من إخبارك ببعض أمري كي تعلم أني لست بخائن، ولكني شقي تعس؛ ذلك أني سافرت منذ ثلاثة عشر عاما أريد الطواف حول الأرض، فبدأت طوافي بالذهاب إلى هافانا الإسبانية، وتعرفت فيها بعائلة أقمت معها ستة شهور، وهي عائلة امرأتي المركيزة، ثم برحت هافانا إلى الهند بعد أن أحببت التي غدت اليوم امرأتي وعاهدتها على الزواج، فلما وصلت إلى الهند نزلت في منزل عمي والد دابي ذاتها، فأحبتني هذه الفتاة حبا غريبا ورضيت بي زوجا لها، إلا أني كنت منشغل القلب مرتبط العهد، فرجعت إلى هافانا وتزوجت التي كنت أحبها وصحبتها إلى أوروبا، وعشت معها للآن بأحسن عيش وأنا أحسب أني قد برحت من بال ابنة عمي إلى أن أخبرتني اليوم بأمرها، وأنا لم أسمع بذكرها منذ ذلك العهد، أفلا تحسبني شقيا بعد هذا؟
فتلبس روكامبول بلباس الكآبة وقال: الحق إنك جدير بالإشفاق، فإنك السبب في موت الفتاة ولكنك بريء من انتحارها.
Unknown page