Rihla Fi Fikr Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
18
غير أن هذه النظرة الصوفية التي تجلت في كثير من المقالات، والتي كانت تعاوده حينا بعد حين، وامتدت معه أعواما طويلة (والواقع أنها ما زالت موجودة حتى اللحظة التي كتب فيها «قصة عقل»)، لم تكن قائمة بذاتها، بل صاحبتها نظرة علمية صارمة، يقول عن نفسه إنه: «خلال تلك الأعوام نفسها (الأعوام التي سيطرت فيها النظرة الصوفية)، كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة، التي لم تكن تريد له أن يأذن لشيء في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثني من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسميه بالمثل العليا ...»
19
وهذه الثنائية الإبستمولوجية التي عانى منها في صدر الشباب، هي التي لخصها بوضوح شديد في «الشرق الفنان» فيما بعد، ورأى أن جانبا منها وهو «النظرة الصوفية»، يمثل خاصية أساسية في نظرة الشرق الأقصى إلى العالم، في حين أن الجانب الآخر وهو «النظرة العلمية»، يمثل الخاصية الأساسية للفكر الغربي ... أما ثقافتنا العربية فهي تحاول - أو ينبغي لها أن تحاول - الجمع بينهما يقول: «هما إذن، نظرتان ينظر الإنسان بأي منهما إلى نفسه وإلى العالم، أو ينظر بكلتيهما: بهذه مرة وبتلك مرة أخرى؛ ذلك أن الإنسان إذ يقف إزاء الحقيقة الخارجية، فإما أن ينظر إليها خلال ذاته فيشبهها بنفسه تشبيها يدمج الطرفين في كائن واحد، وتلك هي وقفة الفنان أو المتصوف ومن لف لفهما، وإما أن ينظر إليها، وكأنه متفرج يتابع ما يجري أمامه على مسرح الحوادث، فيصفه وصفا يصلح لنفسه ولغيره من الناس على حد سواء، وتلك هي نظرة العالم ومن يجري مجراه في التفكير، وثالث الفروض أن يجمع بين النظرتين ليفرق بين أمرين، فإن كان موضوع النظر وجدانا ينبض به قلبه إزاء الكون نظر إليه بالنظرة الأولى، فكان فنانا أو متصوفا، وإن كان موضوع النظر ظواهر الأشياء الخارجية نظر إليه بالنظرة الثانية، فكان عالما أو ذا نزعة علمية ... والنظرة الأولى هي طابع الشرق الأقصى والثانية هي طابع الغرب.»
20
وأما تآلف النظرتين فهو مميز تميزت به ثقافة الشرق الأوسط في عصور ازدهارها، عندما بلغت حضارتها أوجها.
21
انظر إلى العالم من داخله تكن فنانا، أو انظر إليه من ظاهره تكن من رجال التجربة والعلم، انظر إليه وجودا واحدا حيا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ والخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضا، أو يعقب بعضها بعضا، تكن من أصحاب النظر العقلي الذي يستدل النتائج ويقيم الحجج والبراهين، ذلك بطبيعة الحال، بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين، أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينا، والعالم حينا. ولقد اجتمع الطرفان: العقل والوجدان، في ثقافة الشرق الأوسط، وهو في قمة مجده، على نحو من التوازن الذي ربما لم يتحقق بالدرجة نفسها في أية ثقافة أخرى. والمشكلة في هذه الثقافة الآن أن كفة الوجدان طاغية، فليس ثمة توازن. وإذا قلنا ثقافة الشرق الأوسط فإنما يعنينا منها الثقافة العربية بصفة خاصة.
22
وهي ثقافة يجسدها مفكرنا الكبير على نحو صارخ؛ ولهذا لم تكن مصادفة، كما يقول هو نفسه : «حين أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب أن وجد نفسه عضوا في لجنتين من لجانه: لجنة الفلسفة ولجنة الشعر، كما وقع علي اختيار وزارة الثقافة، في الوقت نفسه تقريبا، عضوا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعضوا في لجنة المقتنيات الفنية، ولبثت عضوا في تلك اللجان التي جمعت بين الفلسفة والأدب والفن ما يقرب من عشرة أعوام أو زيد عليها ...»
Unknown page