Rifaca Tahtawi
رفاعة الطهطاوي: زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
Genres
وقد عني رفاعة بعلم التاريخ هذه العناية، وعهد إلى تلاميذه بترجمة الكتب الكثيرة فيه لأسباب كثيرة، أولها ميله الخاص، وثانيها وأهمها ما كان يحسه من شغف محمد علي باشا الشديد بدراسة حوادث الأمم وتراجم عظماء الرجال. ورفاعة حريص الحرص كله في كل ما يعمل على أن يرضي «ولي النعم».
بدأ رفاعة بتنفيذ هذه الخطة، فاختار كتابا في تاريخ الدول والشعوب القديمة: من مصريين، وسريانيين، وبابليين، وأكراد، وفرس، ويونانيين ... إلخ، وعهد إلى تلاميذه في مدرسة الألسن بترجمته، ولما كان هذا الكتاب في أصله الفرنسي «ناقصا تاريخ الخليقة والعرب، وكان في كتاب عماد الدين أبي الفداء سلطان حماة ما يفي بالأرب.» فقد أضاف رفاعة إليه فصولا من هذا الكتاب: «لكمال المطلوب وبلوغ المرغوب».
والمطلوب والمرغوب كما رجحنا هو تغطية تاريخ العالم بسلسلة من الكتب؛ ولهذا نراه لا يتقيد بنصوص المؤلفين عند الترجمة، بل يبيح لنفسه إضافة أجزاء من كتب عربية قديمة ليكمل بها ما في هذه الكتب من نقص وليحقق خطته التي رسمها لنفسه.
وقد كتب رفاعة مقدمة لهذا الكتاب - وهو أول كتاب تاريخي تترجمه مدرسة الألسن، فقد طبع في سنة 1254ه - فلسف فيها دعوته لدراسة التاريخ، وأوضح الأغراض من دراسته، وأشار إلى شغف محمد علي بهذا العلم، وهي مقدمة طيبة لا يشوبها - فيما نرى - إلا التزامه السجع في فقراتها، ولكنه كان مضطرا إلى هذا اضطرارا، فقد كان متأثرا بتقاليد العصر الأدبية. قال في هذه المقدمة: «من المعلوم أن الإنسان مدني بطبعه، مائل إلى التآنس والعمران بأصله وفرعه، مضطر إلى السياسة والرياسة، وحسن الاجتماع والكياسة، وما يكون به استجلاب كماله، ومعرفة أسباب حفظه أو تحوله وانتقاله، وما يكون عليه حال الملك في نفسه أو مع رعيته، وعمارة مدائن مملكته؛ حيث احتاج إلى ذلك تنظيم المصالح، وضبط المهمات على وجه راجح ناجح، لما أنه يستنبط من ذلك كمال فوائده، من كان تدريب التجارب نصب مصادره وموارده، ولا يشم ذلك إلا من للأخبار اختبر، وللسير وللتواريخ سبر، حتى تضلع من وقائع المشارق والمغارب، وتجرع من محيطها بأنواع الأذواق والمشارب، ورجع عن طروق الشبه إلى أهل الذكر، وهرع إلى طرق التاريخ بالهمة والفكر، لما أنه يجود بذكر ما جرى عليه النسيان، ويجيد حوادث الحدثان، ويخرجها من حيز الخفاء إلى حيز العيان. ولولا أن مصباح التاريخ به الاستصباح، لأصبح ما مضى هشيما تذروه الرياح، فمنفعته عامة، للخاصة والعامة، وهو مشير كل أمير، وأمير كل مشير، وسمير كل وزير، وظهير كل سمير، إذا سئل أجاب، وأبدى العجب العجاب، ترتاح به الأرواح الفاضلة، وتلتاح إليه النفوس الكاملة، من الحكماء والأساطين، والملوك والسلاطين؛ فلذا كانت مطمح نظر الخديو الأعظم، وملمح بصر الداوري الأفخم، نادرة الدهر، أنموذج الفخر، سيد مصر، وصاحب العصر، مغناطيس التعجب، صاحب اليد البيضاء التي لا توارى، والحسنات الجمة التي لا تجارى، من به اضمحل الظلم وتلاشى، أفندينا ولي الممالك محمد علي باشا، الذي سارت الركبان بذكره في كل ناد ... وتلقب بأعظم الألقاب، لا سيما عند ملوك أوروبا، أوليس أنه يلقب عندهم معيد تمدن الإسلام، ومبيد تمكن الأوهام ...» «ولما كان تولعه بالتواريخ شديدا، وتطلعه لأخبار الملوك الماضين مزيدا، وله في معرفة فحول رجال القرون الأولى، المادة الغزيرة واليد الطولى، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، وكان تاريخ تلك العصور، بالكتب العربية في غاية القصور، لا سيما تاريخ اليونان، المشتمل على فحول رجال تلك الأزمان ... وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب طرفه، ويخرج دره من صدفه، أعطيته لعدة أفراد، لتعريب المراد، في أقرب ميعاد ... إلخ.»
وقد اشترك في ترجمة هذا الكتاب مصطفى الزرابي أفندي، ومحمد عبد الرازق أفندي، وعبد الله أبو السعود أفندي.
وبعد الانتهاء من ترجمة هذا الكتاب في تاريخ العالم القديم، تخير رفاعة كتابا آخر في تاريخ العصور الوسطى، وعهد لمصطفى الزرابي أفندي بترجمته، فخرج كتابا كبيرا في جزءين، يقع الجزء الأول في 268 صفحة، والثاني في 359 صفحة، وقدم له رفاعة بما يؤكد خطته التي زعمناها، قال: «... يقول الفقير إلى الله تعالى رفاعة رافع ناظر مدرسة الألسنة: هذه رسالة في تاريخ القرون المتوسطة تكملة لتاريخ القدماء الذي طبعه ولي النعم، صاحب الجود والكرم ...» وقد سمي هذا الكتاب: «قرة النفوس والعيون بسير ما توسط من القرون».
تناول هذان الكتابان تاريخ العالم في العصور القديمة والمتوسطة. وقد انقسم العالم في العصور الحديثة إلى دول كثيرة مختلفة، ولكل دولة تاريخها، وقد عني رفاعة بتاريخ فرنسا خاصة للأسباب المتقدم ذكرها، فعهد إلى أحد النابغين من تلاميذه - أبي السعود أفندي - بترجمة كتاب «نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا من الملوك»، فترجمه وطبع في بولاق سنة 1257ه.
وبعد سنوات قليلة من ترجمة هذا الكتاب أهدى المؤرخ الفرنسي «مونيقورس» كتابه في «تاريخ ملوك فرنسا» إلى شريف باشا «مدير عموم المالية»، «وبالمذاكرة مع حضرة البك المفخم، مدير عموم المدارس إبراهيم أدهم، استقر الرأي على طبعه، وأن يطبع على ذمة حضرة الباشا المشار إليه، مكافأة لمؤلفه في نظير الإهداء ...»
وقد قام بترجمته حسن قاسم أفندي أحد خريجي الألسن، وطبع في بولاق في سنة 1264ه.
وقد عرف رفاعة أن محمد علي يعنى عناية خاصة بدراسة سير أمثاله من الملوك المصلحين الذين نهضوا بأممهم نهضات يذكرها التاريخ؛ لهذا «اختار تاريخ ملك من ملوك الإفرنج، تعلو همته بينهم على المريخ، وهو تاريخ بطرس الأكبر، الذي فضله بين ممالك أوروبا أشهر من أن يذكر.» وعهد إلى نابغ آخر من تلاميذه ومواطنيه - وهو أحمد عبيد الطهطاوي أفندي - بترجمته. والكتاب من تأليف الفيلسوف الفرنسي المعروف «فولتير».
Unknown page