وبعد إقامة قصيرة في لندن، دخل ڤاجنر مدينة باريس وقلبه عامر بالأمل في الوصول إلى ما يشتهيه من شهرة ومجد. ولم يكن اليأس يعرف إلى روحه سبيلا في مستهل عهده بمدينة النور، إذ كان واثقا من مقدرته الفنية، وكان آملا - من جهة أخرى - في تذوق أهل باريس لفنه وهم الذين يرفعون إلى الجوزاء فنانين أقل منه قدرا وموهبة.
ولكن هوة الخلاف بينه وبين البيئة الباريسية سرعان ما اتسعت؛ فلم يلق من أحد أذنا صاغية، بل كان الجواب التقليدي الذي يتلقاه ممن يتقدم إليهم بشيء من موسيقاه، هو إعجابهم بتلك الموسيقى الجديدة، مع أسفهم لاستحالة عزفها أو نشرها في الوقت الحالي! ... ولكن كيف كان ڤاجنر يرتزق طوال هذه الفترة؟ كان من أهم موارد رزقه، سؤال أصحابه القدامى وأشقائه في ألمانيا! أما المورد الآخر، فهو القيام بأعمال تافهة ومرهقة في نفس الوقت، لبعض ناشري الموسيقى، كان ينال منها أجرا زهيدا بعد عناء كبير، نظير عمل مهين لم يكن ليقبله لولا الحاجة الماسة؛ ولذا لم يكن عجيبا أن تبدأ شكواه من رئتيه في تلك الفترة، وهي شكوى لازمته طوال حياته.
وفي الوقت الذي كان فيه ڤاجنر يعمل في صمت على إتمام درامته الأولى «الهولندي الطائر
Der Fligender Holländer »، عانى أشد الأزمات المادية والروحية من جراء تنكر باريس له، حتى انتهى آخر الأمر إلى رأي واضح إزائها؛ هو أن الذوق الباريسي في انحطاط مستمر، وأن تلك الأوبرات الإيطالية الخفيفة التي ترحب بها باريس ليست من الفن الصحيح في شيء، وأن أكبر فناني باريس لا يمكنهم أن يدانوا الفنانين الألمان الذين عرفهم وعاش معهم طويلا. هكذا تكشفت الحقيقة الأليمة لعينيه، وانهارت تلك الآمال الشامخة التي كان يعلقها على مدينة لاهية، بل فترت حماسته في تنفيذ مشروعاته الفنية بها، بعد أن أيقن أن جمهورها لن يتذوق فنا متغلغلا في أعماق النفس البشرية؛ وإنما يريد أن يرقص ويلهو فحسب.
ولقد بلغ به سوء الحال أن أوشك ذات مرة على الموت جوعا، لولا أن أسعفته زوجته بشراء ما يلزم لوجبة طيبة، بعد أن تعهدت كتابيا بدفع المبلغ اللازم. ولم يخلصه من تلك الأزمة الحادة سوى بيع تلك الرواية الشعرية التي ألفها في أشق الظروف وأصعبها، وهي «الهولندي الطائر». أما موسيقاها فقد فرغ منها بسرعة تبعث على الدهشة، ثم طوى الصحائف التي تضمنتها، وأضافها إلى مجموعة مؤلفاته المتراكمة.
وفي تلك الفترة عبر ڤاجنر عن مشاعره تعبيرا صادقا في سلسلة من المقالات ظهرت له في الصحف الفرنسية بعد أن كانت تترجم من الألمانية. ولعل أبلغ هذه المقالات دلالة، مقال بعنوان «نهاية موسيقي في باريس» يصف فيه آلام فنان تنكرت له عاصمة الآمال، فأخذ يؤدي صلاة قصيرة يثبت بها إيمانه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: «أومن بالله، وبموتسارت، وبيتهوفن، وبآلهم وأصحابهم، أومن بالروح القدس وبفن واحد لا شريك له، وأومن بأن هذا الفن إنما يأتينا من عند الله، ولا يعمر إلا القلوب التي أنارها الله ... أومن بأن في وسع الكل أن يصلوا إلى السعادة بفضل هذا الفن، وأنه من المعقول لذلك أن يموت المرء جوعا وهو يشيد بعظمة ذلك الفن؛ وأومن أخيرا بأني كنت في الدنيا مجموعة أنغام ناشزة ستجد في العالم الآخر حلها المنسجم المتناسق.»
ولا جدال في أن صفة من الصفات الأساسية في روح ڤاجنر كانت في تلك الفترة بسبيل التكون؛ وأعني بها حماسته للروح الألمانية؛ ففي الوقت الذي أيقن فيه بعدم استعداد الفرنسيين لتلقي تعاليم فنه الجديد، وفي الوقت الذي عانى فيه أهوال البؤس والفاقة بين قوم تنكروا له وتجاهلوه، لم يكن من الغريب أن يتجه خيال ڤاجنر إلى الأدب الألماني يستلهم منه وحيا، أو عزاء وتعويضا عما يلقاه بين الفرنسيين من عناء؛ ولذلك ترجع معرفته بالأساطير الألمانية الوسطى، مثل أسطورة تانهويزر
Tannhauser
ولوهنجرين
Lohengrin
Unknown page