إلى ذلك العهد. ووجد فيهما ڤاجنر ذلك الجو الخيالي العنيف الذي هو أحوج ما يكون إليه للهروب من واقعه القاسي، فصمم على أن ينقل هاتين الأسطورتين إلى عالم الفن، ويخلدهما في تاريخ الشعر والموسيقي.
وسرعان ما استجاب الوطن الذي كان يحيا فيه بكل قلبه إلى دعائه، فواتته في ربيع عام 1842م أنباء كان ينتظرها بصبر نافذ؛ فقد قبل مسرح درسدن أن يعرض الأوبرا الكبيرة «رينزي»، كما قبلت برلين «الهولندي الطائر». وفي السابع من أبريل سنة 1842م غادر ڤاجنر المدينة التي تنكرت له. وهكذا انتهت فترة إقامته في باريس، وبدأت من حياته مرحلة جديدة حاسمة. •••
كان هناك أمل قوي يداعب ڤاجنر في عودته إلى وطنه؛ فقد وجد أخيرا من يستمعون إليه ويفهمونه، وأتيحت له الفرصة ليذيع ثمرات عبقرية على الملأ، وفتح أمامه طريق الشهرة الذي طالما تاق إليه.
ولكم كان العمل شاقا في إعداد «رينزي» ومراجعة أجزائها. على أن جمال ألحانها خفف من عنائه وعناء بقية الفنانين إلى حد بعيد. ومن أطرف ما رواه ڤاجنر في هذا الصدد أن المغني الأول في الفرقة كان أثناء فترات التمرين يتمايل طربا كلما بلغ قطعة معينة في الفصل الثالث، فأخرج ذات يوم قطعة صغيرة من النقود وقدمها إلى ڤاجنر مازحا، على أنها هدية له على ذلك اللحن الرائع، ثم طلب من كل فرد في الفرقة أن يحذو حذوه، وتلقى ڤاجنر النقود ضاحكا هو الآخر. واستمر هذا المزاح في كل يوم من أيام التمرين، حتى كان يقال: «حانت لحظة الدفع.» فيدفع الجميع! وكان المفروض أن ذلك العمل دعابة بريئة، وأن ڤاجنر يتلقى تلك الهدايا الصغيرة على سبيل الدعابة، ولكن ما من أحد كان يعلم أنهم كانوا يقدمون إلى ڤاجنر في عملهم هذا ثمن وجبة غذائه اليومية!
وأخيرا حان اليوم الذي أحدث تغييرا حاسما في حياة ڤاجنر، وهو يوم العرض الأول لأوبرا «رينزي» (20 أكتوبر 1842م)، في ذلك اليوم أحرزت الأوبرا نجاحا هائلا، وأعيدت بعد ذلك مرارا، وأبدت أميرتان من البيت المالك إعجابهما الشديد بالفنان الناشئ، وأصبح انتصار «رينزي» حديث أهل درسدن لمدة طويلة. ووجد ڤاجنر الفرصة سانحة لعرض الأوبرا الأخرى «الهولندي الطائر» في درسدن، ولكنها لم تلق نجاحا يناظر نجاح رينزي؛ وذلك لعدة أسباب، منها أن المغنين لم يطلعوا على أدوارهم اطلاعا كافيا، ولم يجيدوا أداءها - وأهم من ذلك، أن «الهولندي الطائر» كانت أول دراما غنائية يتقدم بها ڤاجنر إلى جمهور لم يكن على استعداد لتلقي نظريات فنية جديدة. أما رينزي فكانت أوبرا من النوع المألوف لديهم؛ ولذا اضطر ڤاجنر - ليحفظ سمعته من التدهور - إلى إعادة عرض رينزي، فعاد الإعجاب سائدا.
وترامت أنباء نجاحه إلى فردريش، ملك ساكس، فأمر بتعيينه قائدا للفرقة الملكية في درسدن. وهكذا ضمن ڤاجنر معاشا معقولا يكفيه للتفرغ لأعماله الفنية.
وفي عام 1843م بدأ ڤاجنر في كتابة أشعار «تانهويزر
Tannhauser »، مسلتهما إياها من الأساطير الألمانية في العصور الوسطى؛ إذ اطلع حينئذ على كتاب «جريم
Grimm » عن الأساطير الألمانية فكان له على خياله تأثير عجيب، وكان لتفكك تلك الأساطير ما يثير مشاعره التي يحركها كل ما هو غامض حفي؛ ولذا عمل على تكملة تلك الأقاصيص ليخرج منها دراما عميقة كاملة. وأعاد ڤاجنر قراءة الكتاب مرارا، فإذا به يحس نحو شخصياته بألفة غريبة، وكأنه يعرفهم منذ عهد بعيد، حتى أصبحت حياته مع تلك الشخصيات العتيقة «حياة جديدة» على حد تعبيره، تغيرت معها نظرته إلى العالم تغيرا كليا، «مثلما تتغير حياة الطفل حينما تبدر منه بوادر النطق والفهم». أما موسيقى تلك الدراما فقد أتمها ڤاجنر في أواخر شهر ديسمبر، وكان خلال تأليفها يقضي الجزء الأكبر من وقته سائرا في جولات انفرادية، أوحت إليه معظم ألحان تلك الدراما المحبوبة.
ولم يكن العرض الحاسم لتلك الدراما هو العرض الأول؛ إذ اتضحت لڤاجنر في خلال الأداء عيوب كثيرة وخاصة في توزيع الأدوار؛ ولذا أسرع إلى تعديلها إما بالحذف أو الزيادة أو التحوير. وهكذا أقبل على العرض الثاني وهو كامل الثقة بنجاحه. ورغم أن عدد المتفرجين في ذلك العرض لم يكن كبيرا، فإن حماستهم كانت بالغة، وخرج ذلك الفوج من النظارة ليذيع في درسدن خبر إنتاج ناجح جديد لفنانهم العبقري. واستمر النجاح مرات عديدة، وكان من أهم الظواهر التي رفعت رأس ڤاجنر عندئذ أنه لاحظ وجود أناس بين النظارة لم يكونوا ممن يؤمون حفلات الأوبرا على الإطلاق؛ مما أثبت له أنهم يقدرون شعره في ذاته، وأن اتجاهه الجديد قد أثمر إذ اجتذب أناسا يرغبون في مشاهدة «الدراما» فحسب.
Unknown page