371

لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.

من أجل هذه الحقيقة الأولية حاربت الأمم الكبيرة والصغيرة ثلاث سنوات، أهوالها منقطعة النظير وفظائعها تروع حتى البرابرة. حاربت ثلاث سنوات وستحارب ثلاث سنوات أخرى إذا اقتضى الأمر، بل ستحارب إلى أن تنتصر الحرية نصرا مبينا فيحطم عرش القيصر بل عروش القياصرة، ويقضي على حلفائهم الأتراك السفاحين قضاء مبرما. ملايين من شبان فرنسا وإنكلترا وروسيا يموتون في هذا السبيل المجيد، ألوف ألوف الملايين من المال تبذل لهذه الغاية الشريفة. والأمم الصغيرة، البلجيكيون والصربيون وأبناء الجبل الأسود الأشاوس، يؤثرون الموت والاضمحلال على أن يعيشوا عبيدا للألمان أو لسواهم من أصحاب السيادة المطلقة الجائرة الأثيمة.

الألمان يا إخواني هم أعداء هذه الحقيقة الأولية الأزلية الإلهية، هم أعداء الحق الأساسي من حقوق الإنسان كلها. أما الأتراك حلفاؤهم فهم أعداء الحرية منذ اكتسح هولاغو مدينة بغداد، خلق الأتراك أعداءها، وعاشوا أعداءها، وسيموتون أعداءها. من هولاغو إلى عبد الحميد إلى جمال باشا. يا لها من سلسلة جهنمية، من بغداد إلى أرمينيا إلى البوسفور إلى سوريا اليوم، إلى كتشانف إلى أطنه، إلى بيروت ولبنان والشام. يا لها من سلسلة فظائع ومظالم، آخر حلقة منها مثل أول حلقاتها، صيغت من أرواح الناس، وجبلت بدماء الناس، يا له من تاريخ يبدأ بالسلب والنهب والتدمير وينتهي بالشنق والصلب والتجويع، تاريخ كتب بدم الأمة، فلا تخلو صفحة من صفحاته من جريمة اقترفها أبناء هولاغو وجنكيزخان.

ولعمري إن عهد الحكم الدستوري أكثر عهود الأتراك فظائع، وأشده أهوالا؛ فقد اقترفوا باسم الدستور جرائم يروع ذكرها حتى تيمورلنك ويهول أمرها حتى عبد الحميد، باسم الدستور حاولوا أن يمحقوا الأمة الأرمنية، فأسروا شبابها وقتلوا شيوخها وأطفالها ونساءها، وباعوا في المدن بناتها، باسم الدستور شنقوا أحرار سوريا، وقتلوا شبيبتها الراقية، ونفوا وجهاءها والأشداء من رجالها، باسم الدستور نهبوا بلادنا، سلبوا بيوتنا، جوعوا أهلنا، قتلوا ثلاثماية ألف نفس بين مسلمين ومسيحيين، من أمة بريئة مخلدة إلى السكون.

كلكم تعلمون ذلك فلا حاجة لأن أصف الفظائع السورية، على أنكم قد لا تعلمون أنه باسم الدستور والملة أيضا ينقلون الأكراد والأتراك اليوم إلى بلادنا فيهبونهم أملاكنا، ويسكنونهم في بيوتنا؛ قصد أن يمحقونا تماما وأن يجعلوا سوريا كولاية من ولايات الأناضول. ومن منا يا ترى يرضى بذلك؟ من منا يسمع بذا الاضطهاد الفظيع الهائل ويسكت؟ من منا يتصور تلك المشانق - مشانق الذكاء، مشانق الحرية، مشانق الأحرار - وينام بعد ذلك هنيئا؟ من منا يفكر بتلك الفظائع ويمثل لنفسه ظلام تلك النكبات التي نكبت بها بلادنا وأمتنا ولا تستفزه الحمية القومية والنعرة الوطنية؟ ولد الأتراك أعداء الحرية بل أعداء المدنية، وسيموتون أعداءها، ولكننا نحن السوريين لم نخلق لنكون عبيدهم إلى الأبد، لا - ورب السماوات - ولو عشت عبدا حياتي كلها فسأموت - في الأقل - حرا، سأموت مجاهدا في سبيل حريتي وحرية قومي.

إخواني أبناء وطني، إن الشعوب الصغيرة تنهض اليوم على ظالميها، تمتشق الحسام لتقطع ربقة الجور والاستبداد، لتحطم قيود الاستعباد، فهلا اقتدينا بالشعوب الصغيرة، وبالأخص إذا كان لنا اليوم من ينصرنا ويساعدنا من الدول الكبرى؟ أو هلا اقتدينا بعرب الحجاز؟ قد ظهر لي بعد رجوعي من باريس أن كثيرين من السوريين يرتابون في أن دولة كبيرة من دول الأحلاف تريد خلاصنا وتتأهب اليوم لأن تنقذ بلادنا وأمتنا من الحكم التركي الفظيع. فإليكم ما استطلعته وتحققته أثناء إقامتي في باريس، إلى المشككين المترددين أوجه - على الخصوص - كلامي، وقد حذر علينا الجهر بمثله قبل اليوم.

عندما وصلت إلى باريس الشتاء الماضي أخبرني شكري غانم، وهو أقرب السوريين إلى الحكومة الإفرنسية اليوم كما أنه حائز على ثقتها «أن النظارة الحربية تؤلف للزحف على سوريا فيلقا يدعى فيلق الشرق وتحب أن يتطوع السوريون فيه ليكون لهم يد في تحرير بلادهم، وسألني عما إذا كانت الدعوة إلى التطوع في أميركا تصادف استحسانا وقبولا»، فأجبته وقتئذ أن السوريين - على ما أظن - لا يلبون الدعوة إلا إذا كانت رسمية، أو بالحري إذا تأكدوا أن الحكومة الإفرنسية نفسها تدعوهم إلى التطوع، ولكن الحكومة في ذاك الحين لم تكن في حالة تمكنها من الجهر بهذه الدعوة، فأهملت وقتيا.

ثم مر شهران فدخلت أميركا في الحرب فتأسست على إثر ذلك اللجنة السورية في باريس لهذه الغاية، واللجنة السورية الباريسية إنما هي أداة وصل بين فرنسا والسوريين، فقد تأسست برضى الحكومة بل بإشارة منها وحضر جلساتها أحد المتوظفين في الدائرة الخارجية ووزير من الوزراء. وهذه اللجنة مؤلفة من وجهاء السوريين هناك؛ من أدباء وتجار، فتبرع أعضاؤها بمبلغ من المال، وكان من أول أعمالها أنها بعثت بوفد إلى أميركا الجنوبية ليدعو السوريين هنالك إلى التطوع.

ولما كنت منذ شهر في باريس قابلت متوظفيها وبعض أعضائها واطلعت على قانونها الأساسي فوجدت أن الغاية الأولى منه هو تحرير سوريا ولبنان بواسطة فرنسا من الحكم التركي، ودعوة السوريين إلى التطوع في هذا السبيل تفصح عما يخالج قلب كل سوري وتعبر عن أقصى أمانينا.

وغاية اللجنة الباريسية الأساسية إنما هي غاية لجنتنا بالذات، أي: أنها تنحصر في تخليص البلاد من الأتراك، وهذا هو المهم بل الأهم اليوم. فعلينا إذن أن نخلص البقية الباقية من قومنا في تلك البلاد التاعسة أو نفتح لهم في الأقل بابا للخلاص، وأعلمكم أيضا بأني لم أكتف بمقابلة موظفي اللجنة وأعضائها بل حبا بتحري الأمور وتحقيق مقاصد الحكومة الإفرنسية قابلت بعض المتوظفين في النظارة الخارجية ووزيرا فيها من الوزراء، وهذا الوزير هو ثقة في المسألة السورية وكلامه فيها يعول عليه، هو حافظ تقاليدها، ودليل سياستها، فترجع إليه الحكومة في الكبير والصغير من مشاكلها، ومما قاله لي هذا الوزير: إن فرنسا تحب أن تساعد السوريين إذا هم ساعدوا أنفسهم، وإنها تريد أن تخلص بلادهم من الحكم التركي وتؤسس فيها حكومة عادلة راقية تكفل لأهلها الأمن والسعادة وتمهد لهم سبل الرقي والنجاح، وستمنح الحكومة كل ولاية من ولايات سوريا - ولبنان منها - استقلالا نوعيا، بمعنى أن سيكون لسائر الولايات مثل ما كان للبنان قبل الحرب مجالس إدارية ونظامات محلية توافق حالها وسكانها، وأن الحاكم العام سيعين للوظائف العالية من هو أهل لها من السوريين أنفسهم.

Unknown page