231

أبدأت تجربز يا صاح وتداوي وتجامل وتحابي، ما هذا عهدي بك، عرفتك حرا غير هياب، وجريئا غير مذبذب، فما بالك صرت تتكلم كعلمائنا الموقرين عبيد الأمراء والأغنياء؟ كنت تحمل على الكهان مثلا فاعتضت عن اسمهم الحقيقي بأدعياء الدين أتعميم منك هذا أم تلطف؟ طرت إلى الهند بنا في خطبتك «الأخلاق» لترينا شر الخرافات والأضاليل هناك، وعندنا نحن المسلمين ما هو أخبث منها وأضر، ذكرت شرائع «كنفوشيوس» وتعاليم «بوذا» التي لا تصلح للناس في كل مكان وزمان وأغفلت ما بلي من شرائعنا ونحن لم نزل نقدسها.

فقلت: والحق في ذلك على صاحب المجلة؛ لأنه بدل من خطبتي ألفاظا كالتي أشرت إليها وحذف منها كل ما خاله «يخدش الأذهان» عملا بالقول المأثور: ودارهم ما دمت في دارهم. - يا للذل ويا للعار! أية دار وأي قوم؟ أيفرقنا التعصب، ويقتلنا الجهل، وتجهز علينا المداراة؟ ولكنك في موضوع الثورة أغفلت أهم الحقائق أو أنك تجاهلت وداريت، فاعلم - أصلحك الله - أن من الحقائق الرائعة أن الثورة للأمة كالحمام للإنسان، تنبه فيها الدم وتوقظ النشاط وتجدد القوى الروحية والمعنوية. ناهيك بالنظافة، فالخمود الملازم حكومات الشرق كلها والأقذار التي تراكمت عليها والفساد الذي اعتراها لا يزيلها غير الحمام، حمام الثورة الغالي.

ولعمري إذا انحط الجيل إلى درجة يصبح الدم في عروقه كالماء فهدره لا يضر وقد ينفع، جيل كهام مرض عقيم لا يصلحه غير السيف، ألا فالسيف يمهد السبيل لتهذيب الجيل الوليد الجديد. اعلم - أدام الله تمكينك - أن للدم عاملا هو أهم في بعض الأحايين من عوامل العقل، أما العقل فإذا اختل يلقي صاحبه بالبيمارستان فيؤسر هناك، والدم إذا فسدت ماهيته وأبطل عمله فهدره وحقنه سواء. ومن أشرف عوامله أنه إذا امتهنت حقوق الإنسان ينبهه الدم الحي في عروقه ويستفزه . والدم يحمله على المناهضة والمكافحة. والدم يثير منه كريم العواطف وشريف السخط والغضب.

وأما الجيل الذي لا يشعر بالمظالم ولا ينفر منها، الجيل الذي ألف العبودية، ولم يزل يسترحم حكامه ليجددوا له القيود والأغلال، فأي فضل له في الحياة، على أن الأمة وإن لم يبق فيها غير واحد من أبنائها يدرك الحقيقة ويصدع بها لا تعدم رجاء فأملا فسعيا ففوزا في تجديد حياتها وعزها ومجدها.

ألا إن ثورة طبيعية دموية لتلقي كلا منا إلى ساحل الحياة. الطفل يولد باكيا والأم في تلك الساعة العجيبة ضارعة متألمة متوجعة، الولادة - كل صنوف الولادة - طريقها الدم ومهدها الأنين، والثورات في الأمم صنف منها. وبعد أن يولد الطفل تأخذ الأم بالتعافي فتشفى رويدا رويدا ويمتعها الله بضعف ما ذبل من حسنها وما انحل من عزمها وقواها. الأم! الأمة! إن فضل كلتيهما لعظيم، وعذاب كلتيهما أثناء الولادة - أثناء الثورة - شديد أليم.

ولعمري إن ولادة الروح الجديدة في الأمة لأهم من الولادات البشرية كلها، هذه هي الحقيقة بعينها أضعتها أو حاولت أن تخفيها في التفلسف بنواميس الكون الأزلية - سامحك الله.

وهلا خطر في بالك أن الثورة المقبلة في البلاد سيكون الجوع مثيرها، آسيا الصغرى وقد بارت أرضها ونضبت ينابيع الرزق فيها وتزاحمت على مواردها القليلة القصية الأجانب من الرومللي وأوروبا. أيموت سكانها جوعا وحكامها في كراسي الحكم آمنون مطمئنون؟ لا والله، الثورة التي ينفخ الجوع في نارها لأشد هولا من سواها، كان إذا اقترح أحد رجال «نبوليون» عليه اقتراحا يبادره سائلا: وهل أنت كافل مغبته؟ أفلا يثير مثل هذا العمل الشعب البائس الجائع، «نبوليون» العظيم - ولم يخش يوما صولة جيوش الأعداء المتألبة - كان يخشى ثورة رأس أسبابها رغيف من الخبز، هياج الشعب البائس؟ لطالما خشاه أكبر أبطال العالم واتقوه، والويل ثم الويل يوم يستفيق شعوب المشرق من سباتهم الطويل العميق فيبتدرون الحسام، يمتشقونه على الظلام. •••

وهذا بعض ما قاله سيدي الأستاذ ناصر الدين البغدادي منتقدا خطتي وخطبتي، وهو عندي من أعز الأصدقاء بل أعزهم غير مدافع ؛ لأنه لا يجاملني ولا يداريني ولا يداهنني، لله دره من صديق يناقش غير عاذر وينبه ويذكر وينذر، وبما أنني بحت باسمه إلى القراء سأهديهم عما قريب رسمه - إن شاء الله.

رسم

الأستاذ ناصر الدين البغدادي

Unknown page