230

لي صديق من علماء المسلمين حر الكلمة، شديد العارضة كثير المعارضة، لا يوارب، ولا يصانع، ولا يحابي، يصدق في الجدال، ويصلب في القتال، منيع عنيد مريد، يؤمن بالله ولا يؤمن بسواه. يخالف لا ليعرف، بل لينصف وينصف، فينتزع الحقيقة من بين جنبيك إذا جنت على عمد هناك، أو يريك أنها بعيدة منك غريبة عنك، وأن حياتك بلاها لكالطلل في الصحراء، بل كالكتابة على الماء، له صديق من أعز الأصدقاء بل أعزهم - وايم الله - لدي وأقربهم إلي - إلى ذاتي المجردة المعنوية العلوية - إلى قدس الأقداس فيها.

وهو لا يزورني إلا في حين عثرة من عثرات النفس، أو كبوة من كبوات القلم، أو سقطة من سقطات العقل والعمل، وقد جاءني منذ أيام يناقشني الحساب فسلم وجلس، وأشعل سيكارته وطلب فنجانا من القهوة وبدأ باسم الله: لم أكن في المدينة ليلة خطبت خطبتك «روح الثورة» ولو كنت فيها لما حضرت الحفلة، فإنني أفضل قراءة المفيد من الخطب - وما أقلها - على استماعها، وبودي لو جعلت الحكومة ضريبة على الخطابة العصرية والدستورية وخطبائها المصاقيع؛ إذ لست أرى فيها كبير فائدة، فالخطيب المليح الطلعة، الحسن البادرة، العالي الصوت، الكثير الحركات والسكنات، يموه ما شاء وشاءت عنجهيته ويخبط في دقيق الأمور خبط عشواء، فيسمعه القوم مرتاحين معجبين ويصفقون لنكتة باردة أو لطعنة صادرة تفوتهم تمويهاته كلها وما قد يتخللها من شذرات حق ولمعات برهان.

والخطيب العالم الرصين الحصيف يمله الناس ولا يعلق من خطبة ساعتين في أذهانهم غير كلمات الشكر للجمعية التي انتدبته وبعض عبارات الثناء على تأدبهم وكرم أخلاقهم وجميل صبرهم في الإصغاء إلى مثل معضلاته وترهاته. الخطيب الأول ضرره أكثر من نفعه، والخطيب الثاني لا يفيد قطعا.

فاستأذنت الأستاذ بكلمة فقال: أدركت لحنك لا الخطيب الأول أنت ولا الثاني، يتهمونك بالعلم يا صاح وأنت بريء منه.

فقلت: وشأني في ذلك شأن شاعرنا المعري القائل:

يظن بي اليسر والديانة والعلم

وبيني وبينها حجب

أقررت بالجهل وادعى فهمي

قوم فأمري وأمرهم عجب - نعم ويسمونك فيلسوفا وما أنت بفيلسوف، ويدعونك شاعرا ولست بشاعر، والحق في ذلك عليك، لاستطعت لو شئت أن تكون أحد الثلاثة، ولكنك طماع طماح، لقد اشتغلت في درع نفسك الأيادي الثلاث - يد العلم ويد الفلسفة ويد الشعر - فبالغت في صناعتها وترصيعها فرقت حتى كادت تنقصف وتبلى، درع أنيقة الصنع وهاجة براقة، تبهر الناظر إليها، وتخدع السامعين بها، ولكن من ينقرها مثل نقرة الناقد يسمع الغنة في صوتها ويأسف أسفا شديدا، نعم، درعك رقيقة دقيقة واهية لا تقيك الأضاليل المقدسة وأغاوي الحياة الدنيا. خذها يا ريحاني مني، ينبوعك لم يزل عكرا، ومياهه لم تزل متشتتة ، أما النفس فلم تملك بعد عنانها، لم تزل بعيدا منها، لم تزل عدوها، وبالتالي عدو الحقيقة.

ولكن هذا غير الموضوع الذي حملني إليك، قلت لم أسمع خطبتك، ولكني قرأتها في المجلة وكنت قد طالعت في مجلة أخرى علمية خطبتك «الأخلاق» فما وجدتك فيهما فيلسوفا ولا عالما ولا شاعرا، بل أديبا كسائر الأدباء تطلي الحديث وتجمجم الكلام، تصدع ببعض الحقائق وتوهم الناس أنك مظهرها كلها، بل إنك محتكرها.

Unknown page