67

Rabb Zaman

رب الزمان: الكتاب وملف القضية

Genres

حول مفهوم التراث1

هل يمكن حقا الركون إلى الرؤية الأصولية التي توقف ذاكرة الأمة عند لحظة ابتدائية أولى، هي لحظة تواتر الوحي القرآني، وتحدد للتراث مفهوما أوحد هو المفهوم الإسلامي، وتؤطره مكانيا بمهبط الوحي بجزيرة العرب؟ وحينئذ هل يغدو العربي المسلم بغير تراث وطني وقومي، أم سيلجأ إلى التراث الإسرائيلي في التوراة «وهو الحادث فعلا»؟ وهل يبقى كل تاريخ تلك المنظومة من الشعوب العربية مقصورا على التأرجح بين الإيمان والكفر، وبين فرعون وموسى، وبين طالوت وجالوت، وبين نمروذ وإبراهيم؟

ووسط هذه الحالة الرجراجة بين الإيمان والكفر، هل يمكن أن يجد الوطن ومفهوم المواطنة مكانا في تحديد الهوية؟ وهل بالحق يمكن إطلاق مفهوم «أمة» على مجموعة شعوب فقدت ذاكرتها وتماهت في الدين فأصبح هو الوطن وهو الهوية؟ وهل يصبح ممكنا - على الإطلاق - الحديث عن صراع حضاري آني، دون أن نتكهن بمصير آل إليه الهنود الحمر قبلنا؟ وإذا كانت هذه أسئلة أرقة مؤرقة، فهل من سبيل إلى الخروج من دائرة الإيمان والكفر إلى فضاء أوسع، لا يظله غير مناخ علمي حر تماما، ويكون همه الأكبر هو مصير البلاد والعباد، إزاء التسارع الهائل الآن في تقدم الشعوب المتقدمة أصلا، وتمكنها من أدوات السيطرة، مع فقدنا الأسس والأدوات والمناهج التي قد تساعد - مع التفاؤل - على بدء خطوات صحيحة، للخروج من دائرة جذب ذلك المغناطيس الرهيب نحو القاع، فالتلاشي، فالزوال في طوايا القرون الغوابر، مع عاد وثمود وأصحاب الأيكة وهنود أمريكا وشعب الإنكا؟

وإذا كانت الرؤية العلمية ممكنة دوما، فهل ينبغي أن يظل شبح الرعب من معادلة الإيمان والكفر، وما يصحبه الآن من أدوات تنفيذية لا تقيم وزنا لأبسط الحقوق الإنسانية، وتنفذ دون مراعاة لحيثيات العدل؟ هل ينبغي أن يظل رعب مصادرة الكلمة والحياة «بأمر الله» عائقا دون المحاولة؟ لو كان ذلك كذلك، فإن من يحاولون تأسيس تلك القراءة العلمية الآن، هم أصحاب الريادة في أشرف ساحات النضال حقا وصدقا.

التاريخ العبء

إن المحاولات العلمية المخلصة في التعامل مع المأثور الإسلامي في ظل الواقع المهين الراهن يجب ألا تضع باعتبارها إطلاقا - إن كانت مخلصة حقا وعلمية حقا - أي قطيعة معه، ولا أن تضع ضمن أهدافها إصدار أحكام بشأنه، ولا رفضه أو نفيه، ولا اقتطاع بعضه - بحجة صلاحيته - دون بعضه، ولا إسقاط مفاهيم معاصرة عليه، إنما يجب درسه مرتبطا بواقعه، منضبطا مع حركة هذا الواقع في زمانه، وإيقاع ذلك الواقع وضبط هذه الحركة مع الحدث الذي سبقها والذي عاصرها، وما نتج عن هذا من إفراز معرفي بعينه، دون محاولات وادعاءات عقلنة المأثور، أو أدلجته، ودون المبالغة في بعض مناطقه، ودون التجاوز عن مناطق أخرى فيه، باختصار أن تتم قراءته قراءة تاريخية لا تجرده من ماضيه ومشكلات زمانه، من حيث كان واقعة في حقل لحدث الواقع المجتمعي، بحيث ترتبط الفكرة بواقعها، ليعود ذلك المأثور إلى حجمه الطبيعي، ويتراجع ظله السحري الذي يفرضه دوما كمثل أوحد لا يصح تخطيه، ولا يظل لونا من التاريخ العبء، قدر ما يتحول إلى تاريخ دافع ومحرك دينامي لا سكوني.

لكن وسط كل هذا الاهتمام بين من يفرضون المأثور الإسلامي وحده تراثا أوحد كل الأمة، ومن يحاولون درس هذا المأثور دراسة علمية، تنكشف حقيقة أولى هامة وخطيرة، وهي أن كليهما - حتى أصحاب الدراسة العلمية - لا يتحركون خارج دائرة المأثور الإسلامي وحده، كما لو كان الأمر فعلا، ثم رد فعل، محاولة فرض دائمة، ومحاولة رد لتحجم ذلك المفروض، دون أن يسمح ذلك الاصطراع الفكري الدائب بالحركة التاريخية إلى ما قبل المرحلة الإسلامية، كما لو كان الزمان قد انبت عندها وانقطع، ولا يظل في الذاكرة من تراث تلك الأمة وسط الهموم الحاضرة سوى ذلك المأثور وحده، مع تجمد المحاولات العلمية ذاتها عند نفس لحظة البدء المحددة سلفا وسلفيا، بزمان بدء تواتر الوحي، ومكانه بجزيرة العرب.

نحو فهم آخر

ومن هنا نلح وننبه إلى خطورة حالة هذا الخدر العلمي الذي استطاب حركة رد الفعل الدائمة، والذي توقف - ربما مضطرا - عند هذا المأثور دارسا محققا مدققا، وربما كان واقع الحال سببا يفرض موضوعات البحث، وأيها جدير بالاهتمام الآن، لكن الاقتصار على المأثور الإسلامي وحده في ساحة الدرس العلمي، يؤسس لفهم كاد يصبح حقيقة، وهو أنه وحده تراث الأمة بكاملها، وعليه كان همنا فتح النافذة على التراث بمعناه الأكمل والأشمل باستمرار، حتى لا يضيع من الذاكرة معنى التراث الحقيقي.

وإن أي عقل سليم يمكن أن يرى بهدوء أن أي تراث لأي مجتمع لا يمكن أن يتطور أو يحدث أصلا دون توارث، فالتراث - لغة - إرث موروث عن الأسلاف، تركوا لنا فيه ناتج خبراتهم ومعارفهم، أي أن التراث متطور فاعل منفعل دوما، أي أن الناس هم صناع ذلك التراث، يصوغونه وفق ظروفهم وحاجاتهم، حتى لو كان دينا، فالوحي القرآني جاء مفرقا ومنجما، ناسخا ومنسوخا، وبدل ومحى وأثبت، تبعا للمتغيرات ولمصالح الناس خلال زمن تواتر الوحي، ثم ظل كمأثور ديني حسب فهم الناس له، أو على الأدق فهم كل فرقة أو مذهب أو طبقة اجتماعية.

Unknown page