64

Rabb Zaman

رب الزمان: الكتاب وملف القضية

Genres

زيارة الترجمان للصعيد

أكد الطبيب الترجمان أنه قد التقاني عام 1992م، لكن لأن للشرف رجاله، فإني أصحح له المعلومة لصالحه، حيث إنه قد تجشم مشقة زيارتي لأول مرة في بيتي بمدينة الواسطى في شتاء 1991م، كأي زائر من قرائنا الكرام الساعين إلى التواصل مع كاتبهم، لكن زيارة الرجل كانت بغرض آخر، حيث جاء يطلب منا رعايته كمبتدئ هاو، ومساعدته على نشر مخطوطة من ترجمته أحضرها معه؛ لأن المخطوطة تواجه عقبات شديدة في نشرها، كما طلب - إذا أعجبتني - أن أكتب لها تقديما يساعد على انتشارها.

ووعدت الرجل خيرا، وبدأت مطالعة ترجمته لكتاب فليكوفسكي «عصور في فوضى»، ولكن لأكتشف أني أمام شرك عظيم، وأن عدم تجرؤ دور النشر على نشره له مسوغاته وحيثياته، حيث وجدتني بإزاء عمل هائل وشديد الخطورة هزني هزا، حتى لحق الهز بالثوابت، ووجدت أمامي فنا عاليا وعظيما بل ورائعا ومثيرا للإعجاب في تزوير حقائق التاريخ والعقائد، لصالح الفكر الصهيوني، كما لاحظت أن العمل قد وقفت وراءه ودعمته جامعات عالمية كبرى، وأساتذة كبار في شتى صنوف المعرفة، وهنا كان لا بد أن يطفر السؤال قافزا: إذا كنت وأنا المتخصص قد حدث لي كل هذا الانبهار - مع هول الصدمة - إزاء ذلك التكنيك الصهيوني العالي الجودة والامتياز، فماذا سيكون شأن قارئ عادي دون أن يتسلح برد على ذات المستوى من الأصولية العلمية والاقتدار؟ بينما الكتاب يتألق تحت ستار براق من العقلانية والعلمية والصرامة الظاهرة، لينقض نهشا على تاريخ مصر وتاريخ العرب، ليؤسس لإسرائيل مكانها في التاريخ وفي العلم وفي العقول وفي القلوب، وكانت الدهشة أكثر عندما علمت أن أول طبعة للكتاب بالإنكليزية كانت عام 1952م، ومع ذلك لم نسمع في بلادنا ولو رد واحد على ذلك الكتاب، بل اكتشفت أن العكس هو ما قد حدث بالضبط، حيث استعان به كتاب عرب كمصدر غفل من الإشارة، مفترض أنهم مهمون أشرت إليهم في حينه.

هنا وجدت معركة حقيقية من النوع الذي يستهويني، خاصة أني سأخوضها في ميداني الذي أعرف مسالكه ودروبه، وقررت فضح كل هذا الكم من التزييف التاريخي وتزوير الحقائق، لكن اللياقة الريفية اللعينة دعتني إلى عدم تجاوز الترجمان الطبيب، خاصة وأنه كان السبب في تعريفنا بذلك الكتاب الخطير، وعليه طلبت من السيد الترجمان الحضور إلى بيتي، وأحطته علما بقراري الرد الفوري والسريع دون إبطاء على ذلك الزيف المخيف الذي تأخر الرد عليه طويلا.

وبالفعل حضر السيد الترجمان، يركب سيارته المرسيدس الفاخرة، واستمع إلى جزء طويل من ردودي على فليكوفسكي، بينما وجهه يتلون ويتبدل، ثم انحدر فجأة إلى حالة عصيبة دفاعا عن طروحات الكاتب الصهيوني، مما أشعرني أن وراء الأكمة ما وراءها، ومن ثم كان ردي الفوري هو أني سألجأ إلى ترجمة النصوص التي سأرد عليها من جانبي ومباشرة، من النسخة الإنكليزية التي كان قد أحضرها لي لتدقيق ترجمته، وسافر الرجل ليعمل تفكيره في قراري الحاسم والقاطع، ولكن لتختفي من على مكتبي النسخة الإنكليزية مع مغادرته، وأسقط في يدي. لكن في ذات الليلة اتصل بي السيد الترجمان ليقدم لي اقتراحا يقول: ما المانع أن أستثمر ترجمته الموجودة لدي الآن ما دمت متعجلا؟ على أن أشير إليه كمترجم لنص فليكوفسكي بشكل واضح مع نغمة نفعية عالية الصراحة، مفادها أن ذلك سيكون دعاية متميزة لترجمته حين نشرها، وإزاء تلك النفعية الواضحة، تراجعت ظنوني في طبيعة علاقة الترجمان بمنظومة الكتاب، وبما جبلنا عليه من مد يد العون للمبتدئين، قررنا العمل باقتراحه.

وقمت بالرد على تأسيسات فليكوفسكي التي أوردها بفصله الأول، حيث إن بقية الفصول كانت إعادة لتوزيع المعزوفة التأسيسية حسب نوتات أخرى، وقد قلت ذلك واضحا في مقالي الأول، وأنجزت ذلك الرد في عشر مقالات سلمتها كاملة للأستاذ مصطفى بكري رئيس تحرير مصر الفتاة آنذاك، ونشرت على التوالي كاملة دون توقف، هذا بينما يقول السيد الترجمان أن ما نشرناه كان ترجمته هو، وأننا كنا نزمع الاستمرار بنشر الكتاب كاملا لولا تدخله لإيقاف نشر بقية الفصول! ولعل الأستاذ مصطفى بكري يقرأ معنا الآن ليدلي بشهادته حول هذه الجزئية، أي أن السيد الترجمان لم يتدخل ويوقف نشر بقية ترجمته المسروقة كما زعم، حيث لم يتسلم الأستاذ بكري سوى تلك الحلقات العشر فقط وقد نشرت كاملة.

حقوق الترجمان

وعملا بالأصول العلمية، واتباعا لشروط الأمانة البحثية، قمنا بتصدير الحلقة الأولى بالبنط العريض برأس المقال، بإشارة واضحة إلى أن العمل الذي سنرد عليه هو من ترجمة الطبيب رفعت السيد، وعدنا إلى تكرار الإشارة في الحلقة الثالثة نظرا لورود نصوص كثيرة من تلك الترجمة فيها ، وفي ختام المقال العاشر والأخير طلبت من الأستاذ مصطفى بكري تليفونيا أن يكتب بنفسه شكرا وتقديرا لتلك الترجمة، وقد جاء نص ذلك التنويه في مربع بلون متميز لمزيد من الإيضاح، وكان نصه: «يتقدم د. سيد القمني بالشكر إلى الزميل د. رفعت السيد الذي ترجم كتاب عصور في فوضى، وبذل فيه من الجهد والعرق ما يستحق التقدير.»

وعندما قررنا توسعة الرد على تلك المدرسة الصهيونية، أصدرنا كتابنا «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل»، وضمنه تلك الردود، وعند ورود الجزء الخاص بعرض أسس نظرية فليكوفسكي التي سنرد عليها وذلك ص97، أحلنا إلى المترجم بحاشية مستقلة واضحة تقول: «إيمانويل فليكوفسكي: عصور في فوضى، عن ترجمة مخطوطة قام بها الدكتور رفعت السيد.» وهو الترتيب العلمي لعناصر معلومات الكتاب حسب الأصول الأكاديمية، أما ملحوظة الأستاذ حازم هاشم، أن تلك الإشارة لم تتكرر بعد ذلك عند ورود نصوص نرد عليها بالكتاب، فهو الأمر الذي ما كان ممكنا، فالترجمة مخطوطة بلا أي معلومات نشر نحيل إليها، فلا اسم ناشر، ولا طابع، ولا بلد، ولا صفحات أيضا، فكيف نحيل إلى صفحات غير منشورة؟ وللتغلب على تلك العقبة وضعنا الإشارة الواضحة في مستهل عرض طروحات فليكوفسكي، مع إبراز الاقتباسات بعلامات التنصيص أحيانا، بالهامش الأوسع أحيانا أخرى، وهي من الأدوات الأكاديمية المعلومة.

ولو قمنا بجمع النصوص الفليكوفسكية التي أوردناها للرد عليها، في اتصال سردي، لما تجاوزت العشرين صفحة، في كتاب يمهد لها، ويناقشها، ويرد عليها، في مائتي صفحة كاملة، جهدنا عليها زمنا حتى أنجزناها، وهي الردود التي أسماها السيد الترجمان «تعليقات وحواشي».

Unknown page