ولعلي أكون مخطئا، وربما أكون مصيبا، عندما أطرح تصوري لمسألة التوحيد والتعدد في التاريخ الديني، مرتبطة بالظرف البيئي، لكنه اجتهاد شخصي يصح قبوله أو رفضه، ويقوم هذا التصور على الفصل والتفريق بين البيئة الزراعية النهرية، والبيئة البدوية الصحراوية؛ ففي البيئة الزراعية تتعدد أشكال الطبيعة ومظاهر الحياة تعددا ثريا هائلا، أنهار دافقة، شلالات، أحجار جامدة، شجر، طيور، حيوان نافع، حيوان ضاري، كائن ضخم قوي، حشرة ضعيفة، موسم خصب، موسم جفاف، أصوات وضجيج من كل نوع، سيمفونية نعرفها نحن أهل الوديان الخصبة، تضج بالنقيق والعواء والثغاء والتغريد والهدير.
وفي المقابل نجد البيئة الصحراوية ضنية بالشكل واللون والصوت، مظاهر الحياة محدودة جدا وتكاد تنعدم؛ فالصحراء تترامى أطرافها دون طارئ جديد، فهي رتيبة الوقع متشابهة دائما، مشهد واحد باستمرار، ولون واحد باستمرار، أصفر مسترخي يتمطى في كثبان ملتوية، وزمن هادئ التوقيع، نادر المفاجآت، والإيقاع الدائم تثاؤب وقيلولة في صمت ممتد أبدا. ومن هنا نزعم أن العامل البيئي أدى دائما بالبدو إلى نظرة مصبوغة بالتوحد والوحدانية، مقابل أثر التعدد الهائل للحياة وصخبها في الحياة النهرية الزراعية، مما دعا إلى اقتراب البدوي من معنى الواحد مقابل المتعدد عند المزارع.
ومع ذلك عندما كانت تتعدد المظاهر، كان البدوي يعدد، فهو مرة يعبد التيس، ومرة يسجد للصخر، ومرة يثور البركان فيسجد للبركان مرتعدا، لكنه كان التعدد البسيط السهل، بما لا يقارن بمظاهر بيئة المزارع الضجوج الخجوج المتغيرة المتلونة دوما، وما كان أسهل أن يكشف البدوي قيمة خروفه، وأهمية القمر في ليل الصحراء الصامت المفزع، فيقرن بين قرني الخروف وقرني الهلال فيسجد عابدا ويهتف الباحثون مهللين لقد تم التوحيد، وأصبح الخروف قمرا في أقنوم واحد!
مغالطات
ويبدو أن د. كريم لم تتقبل نفسه أن تكون هاجر مجرد جارية، منحها فرعون مصر للنبي إبراهيم ليتسرى بها، على ما جاء في التوراة، ولا نعلم هل كان ذلك ترفعا بها عن ذلك، أم ترفعا بالنبي عن معاشرة الجواري؟ وكلاهما كان واقعا في العهود الخوالي. فلم يكن هناك حرج على الأنبياء والمؤمنين من إتيان ملك اليمين والتسري بالجواري والإماء. لكن د. كريم يعامل الماضي بذوق الحاضر، فيؤكد أن هاجر كانت إحدى أميرات البيت المصري المالك، في الأسرة الثانية عشر الفرعونية، حوالي عام 1890ق.م، بالتحديد والتدقيق والتمحيص والتفحيص المبين، ثم لا يعطينا أي إفادة بالمرة عن مصدر هذا اليقين، ولا من أي مصدر أثاري أو آركيولوجي استقاه! ونؤكد له، ولقارئنا الذي نحترمه ونحترم وقفته لمطالعتنا، أنه ليس هناك مصدر أثاري واحد يقول ذلك، ولم يعثر حتى الآن على وثيقة مصرية واحدة تشير إلى النبي إبراهيم وإلى زيارته مصر، لا من قريب ولا من بعيد، ولا بالرمز، ولا بالإشارة، ولا حتى بنص يحتمل التأويل، كما لم تشر النصوص المصرية إلى دخول اليهود مصر زمن النبي يعقوب، مع ولده النبي يوسف ولا حتى لموسى، ولا لرحلة الخروج الشهيرة في التوراة، وهو أمر أثار حيرة الباحثين طويلا حتى اليوم، وكتب في ذلك مصنفات شتى لعلماء أجلاء، لم يستطع واحد منهم أن يعطي مثل جزم د. كريم الواثق القطعي هذا . ونحن بالطبع لا ننكر أن ما جاء في قصص الأنبياء وزيارتهم لمصر قد حدث، لأن ذلك أمر يعد لدينا بدهية تتأسس على إيمان راسخ بالكتب السماوية، لكن ما ننكره هو الادعاء بما لم تكشف عنه آثار مصر حتى الآن، وما نستنكره هو أن يقدم لنا د. كريم ذلك في صيغة التقرير، في حين كان يجب عليه تقديمه في صيغة التقدير، كرأي وتقدير شخصي، وحتى الرأي الشخصي لا يلقى على عواهنه دون توثيق أو مبررات كافية.
ثم يجازف الدكتور مجازفة مفزعة حقا، تصيب الباحث بهلع شديد، فيرفق بموضوعه لوحة فرعونية تصور شخصيات توضح سيماهم أنهم من البدو الساميين، وسبق لي أن لاحقت هذه اللوحة في المصادر، فلم أجد عليها تعليقا أكثر من كونها شخصيات بدوية سامية في مصر بزعامة شخص يدعى أبيشا. لكن الأخ الدكتور يعلق بالقول الجهير: «سيدنا إبراهيم عليه السلام، لوحة اكتشفت في حفريات مدينة منف حيث زار معابدها، وتزوج الأميرة المصرية هاجر عام 1980ق.م.» وهكذا وببساطة يتصورها هينة، هان معها عقل القارئ، عندما يلقمه الأقصوصة وهو يطالع بحسن نية وثقة، ليؤكد فكرة، هي لوجه الحق جميلة، لكنها لوجه الحق أيضا قد صيغت بأسلوب أقل ما يوصف به أنه نوع من ال «فهلوة» وغير جميل.
ولا يقنع د. كريم بذلك، إنما يتمادى، فيعرض لنا صورة لهرم «ميدوم» الواقع غربي مدينة الواسطى (تبعد عن القاهرة 90 كم جنوبا)، المعروف بالهرم الكاذب لضآلة الكشوف فيه، مقارنا بلوحة للكعبة المكية، مع التعليق على صورة هرم «ميدوم» بالقول: «كعبة منف، هرم ميدوم الكاذب، بناه الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة، بني قبل الهرم الأكبر كرمز لإله التوحيد رع ، كان ثالوث معبوداته أليت وعيزت ومنى.» ولا ندري كيف ساغ له أن يتحدث عن توحيد وتثليث في آن معا، بل وتربيع بإضافة كبيرهم «رع». ثم يضيف معقبا: «عندما وصل بنو مناف أو جرهم إلى أرض مكة، أقاموا بيتا للرب مماثلا لمعبدهم الجنائزي بمنف، الذي يطلق عليه حاليا هرم اللاهون، الذي بناه الملك «سنفرو» مؤسس الأسرة الرابعة ليكون كعبة للتوحيد.»
والآن خلط د. كريم الأوراق جميعا: فاصطلاح «المعبد الجنائزي» شيء، و«الهرم» شيء آخر. و«هرم منف» شيء، و«هرم اللاهون» شيء ثان. و«هرم ميدوم» شيء ثالث؛ فهرم اللاهون يقع قرب هوارة من أعمال مدينة الفيوم الحالية، وهرم ميدوم علمنا أنه يقع قرب مدينة الواسطى، وكلاهما غير هرم منف المعروف بهرم سقارة المدرج الذي بناه الملك «زوسر»، مؤسس الأسرة الثالثة حوالي عام 2800ق.م.
10
وما يبدو لنا الآن هو أن د. كريم عمد إلى خلط الأوراق كلها بسرعة خاطفة. وهو عالم بما يفعل تحقيقا لهدف مقصود، هو أن ينقل هرم «ميدوم» إلى منف ليصبح هو الهرم «المنفي» بدلا من هرم سقارة، وذلك عبر ورقة ثالثة هي هرم «اللاهون»، بحيث يصبح هرم اللاهون هو «الجوكر»، الذي يصرف انتباه المشاهد (آسف: أقصد القارئ) عن الورقتين الأخريين في الثلاث ورقات (هرم ميدوم بالواسطى وهو المقصود وعليه العين، هرم سقارة وهو هرم منف الحقيقي وهو المطلوب نسيانه، وهرم اللاهون بالفيوم وهو الجوكر المستخدم لإرباك الصيد: آسف: أقصد القارئ)، وقبل أن يفيق القارئ لما حدث، يمد يده يريد ورقة الهرم المنفي، فيطالعه هرم ميدوم بدلا من سقارة، فيسلم القارئ بعد أن تحول الأمر إلى «فزورة» محيرة، فينسى سقارة ولا يذكر سوى ميدوم، وبقدرة قادر ينتقل هرم ميدوم إلى منف، وينتهي دور هرم اللاهون عند هذا الحد بعد انتفاء الحاجة إليه ويدور عقل القارئ في الطريق المرسوم له بعد أن أصابه الدوار، «ويقنع بأن الذي عدى البحر ولم يبتل، العجل في بطن أمه!» ويحقق الدكتور ما يريده. وما يريده هو ميدوم بدلا من سقارة هرما لمنف ، لا لشيء إلا لأن صورة هرم ميدوم تشبه الكعبة، وهو شبه لا يمكن لمسه في الواقع، إنما يمكن تمريره عبر صور مطبوعة غير واضحة وملتقطة عن بعد، تزيد في ضبابيتها عوامل الطبع أو الطبخ، ومع الطبخ لا يأكل القارئ ملبن إنما يأكل مقلب.
Unknown page