ثم لا تزال الأنظار تطلع إلى ناحية الباب ترقبا لطلعة العروس، ثم إذا هي مقبلة تمشي على استحياء وقد أسبلت جفنيها، وهي تحمل فنجان القهوة تقدمه إلى السيدة الكبيرة أولا، ثم تعود بالثاني إلى الثانية وهكذا. والأنظار تتناهبها من كل جانب؛ هذه تتوسم وجهها وهذه تتفقد عنقها وصدرها، وأخرى تسرح النظر في شعرها ورابعة تلاحظ خطوها لعل فيها ظلعا أو شكا،
1
لا يدعن في جسمها رقعة إلا أوسعنها تفقدا وتصفحا وتأملا، ولا يفوتهن - مع هذا - أن يلاحظن مبلغ مهارتها في حمل فنجان القهوة، وكان كما تعلم يعتمد على ظرف دقيق القاعدة، فإذا أبلغته ولم تسل منه على امتلائه قطرة كان دليلا على المبارة وحسن الخدمة أي دليل!
فإذا فرغن من هذا دعونها إلى الجلوس، فجلست على طرف كرسي في طرف الغرفة في خفر بعضه متكلف مصنوع، ثم رحن يستدرجنها إلى الحديث، لعل في لسانها حبسة أو عقدة أو رمة، أو لعل في بعض لفظها لثغة، فإذا اطمأنن على سلامة اللسان ونصاعة الأسنان ظللن برهة يسيرة يمدحن فهيا جمال الفتاة وحسنها، ويشدن بأدبها ولطف موردها، ثم استأذن في الانصراف وأقبلن على أمها وسائر من حضرن مسلمات مودعات مقبلات، وأذكين على الفتاة أدقهن حسا وأنفذهن أنفا، فانفلتت إليها تحييها وتبالغ في تدليلها وإعزازها وإظهار الحب لها والكلف بها، وراحت تواليها - تحت هذا العنوان - تقبيلا وضما والتزاما وشما، وهي إنما تفعل في تمهر لا يخفى زيفه على أحد؛ قصدا إلى تشمم فيها لعل فيه بخرا، وإبطها لعله يفوح دفرا، ولا تألوها لمسا ومسا، وغمزا وجسا، طائفة باليد على جوارح الجسد، لعل منها ما عراه الرهل أو أصابه الأود!
ولربما طفن من غدهن ببيت فلان وبيت فلان، ثم بعد غد ببيت فلان وبيت فلان، حتى يستعرضن السوق كلها وينثلن الكنانة نثلا، ما يدعن فيها سهما ولا نصلا!
ولربما رجعن إلى بعض من وردن لإعادة النظر، أو على الأصح لإعادة الفحص والتنقيب، والإمعان في الفر والتقليب، ما يرى أولياء الفتاة بذلك بأسا ولا يجدون في أنفسهم منهم حرجا!
فإذا أذن الله واجتمع الرأي على فتاة من هؤلاء خطبت إلى الأم أولا، فإذا اتفقت الأمان على المهر وإلا صار الأمر إلى الأبوين ومن إليهما من الأولياء، ولربما استعان ولي الزوج بعض الظاهرين من الجهة على ولي العروس في سبيل الحظ من مقدار الصداق المطلوب، فإذا لم يبق موضع لخلاف من هذه الناحية، قرأ الجماعة فاتحة الكتاب في خفوت تبركا واستكمالا لفضل الله العظيم، وكذلك يشيع بين نساء الحي وفتياته أن فلانة قد قرئت فاتحتها، وليس وراء الفاتحة إلا قبض مقدم الصداق، فالعقد في الأعراس يتخلل هذه الفترة ألوان من الهدايا تساق الفينة بعد الفينة إلى دار العروس، وتدعى هذه الهدايا بالنفقة وعلى قدر هذه النفقة يعلق النساء أبلغ الأحكام، ومثلتهن السائرة في هذا الباب «العريس يبان من نفقته» وهذه الهدايا لا تعدو النقل والحلوى، والسمك، والشياه، إذا طلع العيد الكبير.
ولقد جهد بي - يا سيدي القارئ - ولعله قد جهد بك أيضا، فلقد طال المقام وتجاوز القدر المقسوم له، فلنرجئ الحديث في حفلات العرس إلى يوم آخر إن شاء الله.
كيف كان الشباب يزوجون (2)
قد مضى قولنا في الخطبة وأسبابها، ولم يبق بين أيدينا إلا العقد فالأعراس، ويحسن بنا قبل أن نتناول شيئا من هذا بالحديث أن نعود فنؤكد لك أن البنت على وجه خاص لم يكن لها أي رأي في أمر زواجها، ولا فيمن يتزوجها ولا يسوغ لها أن تتطلع ولو إلى مجرد العلم بشيء من ذلك، إنما الأمر كله إلى أمها وأبيها يزوجانها متى شاءا وممن أرادا.
Unknown page