عنه فنار العلم ذات تشعشع
ولكن فيلسوفنا الشاعر يعود فيوافقك يا صديقي إلى حد كبير، إن النفس عند فراقها للبدن تكون في الحقيقة كأنها لم تفد شيئا وكأنها لم تصحب البدن قط، وما أسرع ما انقضى زمن إقامتها فيه، فقد اختفت سريعا كالبرق الخاطف، وعادت كأن لم تكن بالأمس شيئا مذكورا. وإنه ليختم حديثه معك بحفزك وإثارة الطلعة في نفسك لعلك تمعن في التفكير والنظر لترى جوابا لهذا السؤال المربك: فيم هبوط الروح للوصول إلى كمالها، ثم فصلها قبل أن تصل؟! قال محدثي: إني لأرى شبها قويا بين هذه القصة التي قصصتها علي عن ابن سينا وبين ما رويته لي بالأمس عن فلسفة أفلاطون من أن النفس كانت تسبح في عالم المثل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلت بالجسم وتعلقت به، فإذا وافت الإنسان منيته عادت من حيث أتت، قلت نعم ولعل لي معك في هذا حديثا آخر.
نزعتان
لقد تعجب أشد العجب لهذين الصديقين، يتلازمان حتى لا يكادا يفترقان في غدو أو رواح، فإذا هما اجتمعا لنقاش رأيت فيهما نقيضين لا يجتمعان، ولطالما سعيت إلى مجلس هذين الصديقين أستمتع بما يدور بينهما من حوار، يعمق أحيانا ويضحل أحيانا، ولكنهما فيه طرفا نقيض على كل حال، ولست أذكر أني جالستهما مرة دون أن يرد إلى خاطري هذا التقسيم الذي اقترحه وليم جيمس، والذي يقسم الناس شطرين، يطلق على أحدهما «أصحاب العقول الحساسة»، ويطلق على الآخر «أصحاب العقول الصارمة»، ويضع في الفريق الأول المتفائلين والمتدينين والموحدين والمحافظين والقائلين بحرية الإرادة عند الإنسان، كما ينظم في الفريق الثاني المتشائمين والملحدين والمتشككين والقائلين بالجبر في إرادة الإنسان والذين يعتمدون في الرأي على التجربة والحواس.
جلس الصديقان ذات مساء يتحدثان حديثا حافلا شاملا، كأنما أراد كل منهما أن يبسط نفسه بسطا فلا يخفي من مكنونها شيئا.
قال الأول: سبحانك اللهم ربي، قد خلقت هذا الوجود فسويت، فكأني بهذي الكائنات أنغام من لحن متسق جميل، كل شيء في الكون يجاوب كل شيء! انظر إلى غريزة الأمومة عند الحيوان تزداد شدة ورسوخا كلما ازداد النسل ضعفا، وهي تزداد فتورا كلما كان الصغار أقوى على احتمال الحياة بغير حنان الأمومة، وانظر إلى هذه الزهرات التي لا تخصب إلا إذا وجدت ما ينقل اللقاح من ذكرها إلى أنثاها، قد بدت أروع ما يكون الزهر جمالا في أعين النحل، فينجذب مشوقا إليها، ينتقل فرحا مرحا من زهرة إلى زهرة، فينقل معه اللقاح المخصب من الذكر إلى الأنثى وهو لا يدري، ثم انظر إلى هذا الذي يرويه هيرودوت من أن الحيوان الخطر - كالأفاعي - لا ينسل إلا قليلا وفي عسر شديد؛ لأن خطرها وحده كفيل ببقاء هذا النسل القليل، أما الحيوان الذي يقع فريسة لغيره؛ لعجزه عن الدفاع ولأنه يصلح أن يكون طعاما - كالأرانب - قد مكن له من النسل اليسير الكثير ليضمن البقاء بكثرة الأبناء؛ تلك وأشباهها - عندي - آيات بينات على ما في الكون من تدبير حكيم.
فأجابه الثاني: وهي عندي أدلة ناهضات على أن الطبيعة قد قست حتى أسرفت؛ فهي في ذلك كرجل أراد أن يصيد أرنبا في مزرعة، فأقفل المزرعة على ألوف الأرانب وجمع آلاف البنادق، وأخذ يصب ناره صبا حاميا ليظفر بالأرنب الذي يريده، أو كرجل أراد لنفسه بيتا يسكنه، فابتنى مدينة بأسرها، سكن منها منزلا وخلف باقيها للدمار؛ إن هذه الطبيعة يا صاحبي تهلك شيئا لتبقي على شيء؛ إنها تفني أمة لتبقي على أمة، وتقتل فردا لتمهد الحياة لفرد؛ إنها تتلف زرع الزارع لتسقط المطر، وتفتك بحيوان ليحيا بلحمه حيوان.
قال الأول: أرسل بصرك يا أخي إلى الأفق وانظر إلى هذا الجمال الفتان! انظر إلى الشفق وقد خضب السماء، وإلى الأشجار السامقة وقد انتثرت في نظام بديع، ثم إلى ...
فقاطعه الثاني: صه! ماذا أسمع؟ إن طائرا يصيح في هذه الأشجار نفسها صيحة الفزع، فلعل طيرا جارحا قد فتك به ليطعم.
قال الأول: أفهم ما تريد، ولولا أننا في صدر الربيع، حيث الأرض قد لبست زخرفها وازينت في أعين الناظرين، فانتعش بين أحيائها الأمل والرجاء، لعذرتك في هذه النظرة السوداء. إن كل ما حولنا ناطق بنشوة الحياة وجمالها، وهذه الزهور اليانعة وحدها لحقيقة أن تسلكك في لحن الوجود، ولكن ...
Unknown page