ثم يعود الرأي المشترك بين الناس فيجمع بين هذين الصنفين من الكائنات في صفة واحدة، هي أنها جميعا تقع في الزمن، بمعنى أن كلا منها، حيا كان أو جمادا، إما قد وقع في الماضي، أو هو واقع الآن، أو سيقع بعد حين، أو هو يجمع بين هذه المراحل الزمنية كلها أو بعضها.
تلك وأمثالها هي الرأي المشترك بين الناس عن الكون الذي نعيش فيه، وهي هي بذاتها الأشياء التي قسمتها العلوم فيما بينها ليختص كل منها بجانب واحد منها؛ فيحدثنا علم الفلك عن أجرام السماء: ما أحجامها؟ وما عناصر تكوينها؟ وبأي سرعة تجري؟ وكيف يؤثر بعضها في بعض؟ وعلوم الطبيعة والكيمياء تتناول الأشياء المادية على اختلافها، تحللها وتبين طرائق سلوكها، وعلم يختص بالحيوان، وعلم بالنبات، وعلم بطبقات الأرض، وآخر يحصر نفسه في أفعال الناس الشعورية أفرادا وجماعات، وهكذا.
وكذلك الفلسفة لا تفعل سوى أن تأخذ هذه المعارف المشتركة بيننا جميعا، أو بين الكثرة الغالبة منا، تأخذها لتسأل عنها بعض الأسئلة التي لا تقع في هذا المجال أو ذلك من مجالات العلوم، لتبلغ بمعارف الناس مبلغ التحديد والدقة . ألم يتفق الناس على أن الكائنات صنفان؛ مادية وغير مادية؟ أفلا يجوز أن يكون هذان الصنفان إنما يختلفان في الظاهر، لكنهما في حقيقة الأمر شيء واحد؟ أفلا يجوز أن نحلل المادة فإذا هي لا تختلف عما قد أسميناه روحا أو عقلا من حيث الأساس والجوهر وإن اختلفت في طريقة التركيب؟ أو أن نحلل العقل فإذا هو ظاهرة تصف المادة حين يتخذ تركيبها صورة معينة؟ ألم يتفق الرأي المشترك بين الناس على أن الأشياء المادية تقع من المكان هنا أو هناك، وأن الأشياء كافة مادة كانت أو عقلا تقع في هذه اللحظة من الزمن أو تلك؟ فماذا لو لم يكن هناك أشياء؟ أيظل هناك مكان وزمان خاليان؟ أم يزول المكان بزوال ما يحل فيه كما ينمحي الزمان بزوال ما يقع فيه من أحداث؟
ومهما تكن معرفة الإنسان بالعالم، أفليس من حقنا أن نسأل: كيف عرف الإنسان ما عرف؟ هل هو يعرف بالحواس وحدها؟ هل هو يعرف بالعقل وحده؟ هل هو يعرف بالحواس والعقل معا؟ فإن كان يعرف بالحواس وحدها، أفننكر إذن وجود ما لا يقع في حواسنا من رؤية وسمع ... إلخ، وإن كان يعرف بالعقل وحده، أفننكر إذن وجود ما تدركه الحواس؟ وإن كان يعرف بالحواس والعقل معا، فكيف يتعاون هذان الجانبان على اختلاف ما بينهما؛ فالحواس جسم والعقل روح.
2
إننا لا نريد أن نحصي كل ضروب الأسئلة التي يلقيها السائل عن معارف الناس المشتركة، يلقيها ليصل بتلك المعارف إلى درجة مرضية من الدقة والتحديد، لكنه إذا ألقى سؤالا من هذه الأسئلة وأشباهها، فهو فيلسوف.
فإن كان السؤال مما يشمل جوابه علما مزعوما عن الكون بأسره باعتباره وحدة واحدة، فتلك هي «الميتافيزيقا» أو «ما وراء الطبيعة» من أقسام الفلسفة؛ فأنت تقول قولا ميتافيزيقيا لو قلت عبارة كائنة ما كانت وتريد أن تصرفها على الكون كله بكل ما فيه، قل مثلا: إن كل شيء في الوجود مادة، أو إن كل شيء في الوجود ذو حياة وروح، أو إن كل شيء في الوجود له ظاهر وباطن، أو إن كل شيء في الوجود هذا، أو كل شيء في الوجود ذاك. يكن قولك مما جرى العرف على تسميته بما وراء الطبيعة في الدراسات الفلسفية. ولا بد أن نلاحظ أن الكثرة الغالبة من الفلاسفة قد شغلت أنفسها بالبحث عن أمثال هذه المبادئ العامة أو الأحكام العامة التي يمكن أن يوصف بها الكون كله دفعة واحدة؛ ومن ثم كانت «الميتافيزيقا» أو ما وراء الطبيعة أهم ما يطبع التفكير الفلسفي في شتى العصور.
لكن الفيلسوف قد يشغل نفسه كذلك بأسئلة أخرى؛ فمثلا: كيف يتاح للإنسان أن «يعرف» ما يعرفه عن العالم المحيط به؟ ما طبيعة معرفته هذه؟ ما قوامها؟ ما أداتها؟ ما حدودها؟ وتلك هي ما يسمى في الدراسات الفلسفية بنظرية المعرفة. والفيلسوف يمضي في هذا الطريق ليسأل: ما المعيار الذي أعرف به أن ما قد عرفته عن العالم هو الحق والصواب؟ وذلك هو ما يسمى في الدراسات الفلسفية بالمنطق.
والناس في حياتهم اليومية الجارية لا ينفكون يصفون الأفعال بالخير أو بالشر، ويصفون الأشياء بالجمال أو بالقبح، فما العناصر المشتركة بين الأفعال الخيرة جميعا؟ هل هي خيرة لأنها تنفع الناس وتسعدهم؟ أو هي خيرة لأن العقل يوجبها وإن لم تعد على أحد بسعادة أو نفع؟ ثم ما الصفات المشتركة بين الأشياء كلها التي توصف بالجمال؟ هذه الأسئلة هي كذلك مما يلقيه الفلاسفة ليجيبوا عنه، فيكون لنا بذلك ما يسمى بعلم الأخلاق وعلم الجمال.
تلك هي الفلسفة ومباحثها كما قد جرى بها العرف والتقليد منذ اليونان الأقدمين، ولو حللت ما كانت تحاول أن تؤديه، وجدته يتناول موضوعات مختلفة فيما بينها اختلافا بعيدا، لكنها تقع في واحد من أنواع ثلاثة؛ فهي إما أن تنافس العلوم الطبيعية في الموضوعات التي تبحثها تلك العلوم، وما أكثر ما بحث الفلاسفة في أمور تتعلق بالفلك أو بتركيب المادة أو بتطور الكائنات الحية وما إلى ذلك! وعندئذ كانت تسمى بالفلسفة الطبيعية، وإما أن تنفرد لنفسها بموضوعات لا يشاركها فيها أي علم آخر، وهي الموضوعات التي لا يكون الإدراك الحسي مدارها، وعندئذ كانت تسمى بالميتافيزيقا، وإما ألا تتقيد بموضوع كائنا ما كان، وتنصرف إلى تحليل ما تقوله العلوم الأخرى أو ما يقوله الناس، تحلله لتعرف: أين يجوز القول وأين لا يجوز؟ وأين الصواب وأين الخطأ؟ وعندئذ كانت تسمى بالمنطق أو بالتحليل، وها هنا تأتي ثورة الفلسفة المعاصرة.
Unknown page