أما الخير الذي أصابه الفكر من الصحافة، فأهمه سهولة تدريب الكاتب على بلورة أفكاره؛ فلو كان كل كاتب ناشئ لا بد أن ينتظر حتى يفرغ من تأليف كتاب بأكمله، لكان الأرجح أن ينثني كثير من الكتاب عن الكتابة والتفكير، وكذلك كان للصحافة إلى جانب ذلك فضل آخر على الحركة الفكرية المعاصرة، وهو أنها عملت على ليونة الأسلوب وسهولته وانسيابه وسلاسته ليتمشى مع مقتضيات الحوادث اليومية، وهذا لا شك كسب عظيم؛ لأن الأسلوب الذي لا تكلف فيه علامة على صدق التعبير، والصدق في التعبير عن الرأي هو بدوره علامة قوية على الحرية التي ننشدها.
وأما شر الصحافة على فكرنا المعاصر فهو مستطير جسيم؛ لأنها طبعت الفكر العربي المعاصر بالسطحية والتفاهة وقلة النضوج؛ فهذه هي الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية تفتح صفحاتها لأقلام الكتاب كلما أشرقت الشمس مع الصباح أو غربت مع المساء، وهؤلاء هم الكتاب المفكرون يسرعون كل يوم إلى مكاتبهم يلقفون نتفة من هنا ونتفة من هناك لتكون لهم مقالة في هذه الجريدة أو تلك، فكاتب من ألف كاتب هو الذي يصم أذنيه عن نداء الصحف السيارة، ليهدأ إلى مكتبه عامين أو أكثر، حتى ينضج كتابا كاملا في موضوع؛ إن الثمرة الطيبة بحاجة إلى زمن حتى تنضج، ولا بد أن تكون طوال هذا الزمن في مأمن من الزعازع والأعاصير ومن المطر والحشر، لكن الصحافة عندنا قد جن جنونها فأطاحت بعقول المفكرين معها في سرعة دورانها.
إنني لا أقصر القول هنا على الإنتاج الأدبي وحده، بل إنه ليشمل أبحاثنا العلمية ومشروعاتنا الإصلاحية كذلك؛ فكم من باحث علمي لا يجد في نفسه الأناة التي تدعوه إلى التمهل والروية والتثبت؛ لأنه أمام صحافة مستعدة لنشر بحثه ممهورا باسمه، فسرعان ما يزيغ بصره، فيضحي بالأمانة العلمية في سبيل النشر السريع والشهرة العاجلة، وكم من رجل مسئول من رجال الدولة، لا يتأنى بمشروعه الذي قد يكلف الخزانة ملايين الجنيهات؛ لأنه يخشى أن تفوته فرصة النشر السريع.
حب للحرية والتسامح وسعة الأفق، وترجيح لأحكام العقل أو محاولة ذلك، ثم سطحية دعت إليها الصحف؛ تلك هي السمات البارزة التي تطبع الفكر العربي المعاصر.
صفقة المغبون
(هذه المقالة أرسلت من واشنطن.) ***
هي صفة أولئك الذين أراد لهم الله أن تكون أقلامهم هي موارد أرزاقهم، وقد كنت أحسب أن هؤلاء المساكين إن كان نصيبهم في سائر أنحاء الأرض بؤسا وحرمانا، فلا يكون ذلك نصيبهم في هذه البلاد - أمريكا - التي تسيل أباطحها ذهبا نضارا، لكني سرعان ما سمعت من أمرهم عجبا، فالكاتب الأمريكي الذي يعتمد في كسب قوته على الكتابة وحدها - إذا استثنينا قلة نبغت فأثرت - يعاني في سبيل العيش قلقا وعسرا.
فإذا أخذت كاتبا وسطا، لا هو بالعبقري الذي أسمع صوته للعالمين فجاء إليه الناشر يسعى ويمنح فيسخو له في العطاء، ولا هو بالمغمور الذي يرسل المخطوط إلى الناشر قانعا بالرزق القليل، ألفيت ذلك الكاتب الوسط في حال شديدة الشبه بحالة الفلاح المصري أيام أن كان في بؤسه يقترض من مالك الأرض مالا ينفق منه على نفسه وعلى الأرض التي يفلحها حتى تثمر، فإذا ما أثمرت الأرض كاد ثمرها لا يوفي ما اقترضه، دع عنك أن تتبقى له بقية ينعم بها جزاء ما عمل، فكذلك الكاتب هنا في معظم الحالات، إن لم أقل في كل حالة، يتعاقد مع الناشر على كتاب يتعهد بإخراجه بعد عام أو عامين مثلا، ويقرضه الناشر شيئا فشيئا، حتى إذا ما فرغ الكاتب من كتابه لم يجد شيئا! ولو أن ما اقترضه الكاتب سلفا يكفي حاجته لقلنا نعم ونعام عين، لكنه يعطيه بكف مغلولة إلى عنقه، فيقترض الكاتب من أبواب أخرى، راجيا في مستقبل قريب يحل له ما تعقد من أموره، فإذا هذا المستقبل بعيد، وإذا الكاتب يرزح تحت دين متصل، يكون له ذلا بالنهار وهما بالليل.
وأعجب العجب أن يكون مورد الكتابة بهذا النضوب كله، ومع ذلك يزداد الواردون! فقد أحصى إحصاء سنة 1950م ستة عشر ألف كاتب محترف في الولايات المتحدة - عدا من يكتبون هواية ويرتزقون من عمل آخر - فكان لهذا العرض الكثير نتيجته الطبيعية، وهي أن يقل ربح الناشر نفسه من الكتاب الذي يتعهده؛ ولذلك تراه حريصا في اختياره منذ البداية، شحيحا في عطائه ، فالكاتب مجدود إن قبل الناشر كتابه، وهو مجدود مرة أخرى إن أعطاه الناشر شيئا، وهو مجدود مرة ثالثة إذا بلغ ما أعطيه ألفي دولار؛ أي ما يعادل سبعمائة جنيه مصري، وربما قال القارئ المصري، وأين منا الكاتب الذي يصيبه هذا المال كله على كتاب؟ لكنه بهذا القول ينسى الفرق بين الحياتين، والفرق بين مستويين في الأسعار، وحسبي أن أقرب له الحقيقة فأقول إن الطالب المصري في أمريكا يصيبه من الحكومة المصرية في العام الواحد نحو تسعمائة جنيه مصري؛ أي إن الطالب المصري في أمريكا يعيش في بحبوحة من المال لا يحلم بها تسعة أعشار حملة الأقلام من أهل البلاد. والأمر سائر مع أصحاب القلم من سيئ إلى أسوأ؛ فقد كان متوسط النسبة المئوية التي يتقاضاها الكاتب من كتابه عشرين من كل مائة سنة 1910م، ثم أصبح خمسة عشر سنة 1925م، وهو الآن عشرة من كل مائة، ذلك إن كان المطبوع من الكتاب خمسة آلاف، وهي الحالة في الكثرة الغالبة من الكتب، على غير ما كنت أظنه بادئ الأمر، إذ كنت أظن أن كل كتاب هنا يطبع بمئات الألوف، وتزيد النسبة كلما زاد المطبوع من الكتابة، وأضرب لذلك مثلا، فالقصة التي تباع في السوق بما يساوي مائة وخمسين قرشا للنسخة الواحدة، لو طبع منها خمسة آلاف أخذ كاتبها نحو ستمائة جنيه مصري، ولو طبع منها عشرة آلاف أخذ كاتبها نحو ألف وأربعمائة جنيه مصري، وهكذا، ولكن الكاتب الوسط - كما قلت - يندر أن يطبع من قصته هذا العدد.
فكان من النتائج الطبيعية لهذه المعسرة، لا أن يطوح حملة الأقلام بأقلامهم في النار ليبحثوا عن عمل آخر، بل أن يلتمسوا لأقلامهم موردا آخر غير كتابة الكتب، فكان هذا المورد الآخر هو المجلات والصحف، أما الصحف اليومية فأتركها الآن إلى فرصة أخرى، لأحصر الحديث في المجلات الأسبوعية أو الشهرية باعتبارها موردا أساسيا لمن حرفتهم الكتابة.
Unknown page