كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
وبيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (ووجه المقارنة بين البيتين هو أنهما يشبهان شيئين بشيئين) فيقول الدكتور مندور: «لننظر في تشبيه امرئ القيس وتشبيه بشار لنرى كيف أن امرأ القيس لم يذهب بعيدا، وإنما طلب إلى حواسه المألوفة وإلى حياته الراهنة أن تأتيه بهذا الصادق القريب، تشبيه قلوب الطير التي افترستها العقاب بالعناب والحشف البالي، العناب للقلوب الرطبة والحشف للجافة، ثم ننظر في تشبيه بشار التمثيلي كما يقولون، فنراه يشبه النقع وقد انعقد فوق الرءوس والسيوف تضرب، بالليل تتهاوى كواكبه، وبشار لم ير الليل تتهاوى كواكبه ولا رآه حتى المبصرون، فهو تشبيه بعيد ليست له في النفس صورة ما؛ ونحن لا نكاد نتصور ليلا تسقط نجومه فيشبه ذلك معركة ترتفع فيها السيوف ثم تسقط مبرقة وسط النقع المثار. ولا كذلك تشبيه امرئ القيس.»
ولا ينفك أديبنا الفاضل ينثر أحكامه الأدبية الصادقة نثرا في أرجاء كتابه، وحسبنا من ذلك مثلان، فهو يذكر رأي ابن سلام القائل بأن المفاضلة بين الشعراء تكون على أساس كثرة الإنتاج، ثم يعقب على ذلك برأيه قائلا: «في ظننا أنه من الواضح أن الكم ليس مقياسا صحيحا لقيم الشعراء» (ص11).
ويعرض للمذاهب الأدبية التي تسود هذا العصر أو ذاك فتتحكم في الأدباء بقواعدها وأوضاعها، لكنه يسارع عندئذ إلى إثبات رأيه الصائب، فيقول: «... وعندما تقوم في الشعر مذاهب نظرية نرى دائما أنها لا تطغى إلا على الشعراء الغير الموهوبين (وكان الصواب أن يقول غير الموهوبين إذ لا تجوز أداة التعريف مع كلمة غير لأن غير نكرة بطبيعة معناها) فهي - أي المذاهب النظرية - «عكاز الأعمى» وأما الشاعر الأصيل فإن المذهب لا يمكن أن يكون عنده إلا مجرد اتجاه عام، فالرومانتيكية أو الكلاسيكية مثلا غير موجودتين بمبادئهما المحكمة إلا عند الضعفاء من الشعراء والأدباء، وأما كبارهم فقد صدر كل منهم عن طبعه هو ولم يكن للمذهب تأثير عليه إلا في التوجيه العام؛ لهذا نجد الكلاسيكية الشكلية عند براون أكثر مما نجدها عند راسين، وكذلك الأمر في الرومانتيكية فهي أوضح - كمذهب - عند بريزيه مثلا منها عند موسيه» (ص41). •••
ولو مضيت في ذكر المواضع التي استثارت إعجابي في هذا الكتاب، لما بلغت النهاية في حيز قليل، ولا بد لي الآن أن أجادله بعض رأيه.
وأول ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أشفق منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالا بعيدا، هذا الرأي الذي يجعل ل «الذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون؛ إننا يا سيدي الدكتور نعيش في بلد لا تضبطه القواعد ولا تلجمه القوانين، وما أكثر ما يصادفك الفتى لم يكد يشب عن طوقه، فيتغنى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعما لك أنه من غر القصيد، فإذا ما أردت تأديبه فطالبته بالدليل أجابك أنه يطرب له وكفاه ذلك دليلا، ولست أذكر في هذا السياق عشرات من أساتذة الأدب عندنا تأدبا، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة مثل الدكتور محمد مندور برأي كهذا قد يتسرعون في فهمه فيساعدهم على فوضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه.» لأني ألاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند الذوق إلى أسباب (ص ب في التقديم)، ثم عاد فأكد لقارئه أن «النقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره فاستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل» (ص7).
لكني أصارح أديبنا بأنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابا»، ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق ل «نظر العقل»، «الأسباب» و«النظر العقلي» لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي. فأنت يا سيدي بين أمرين؛ إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تحتفظ لنفسك بهما معا فذلك منك بمثابة النظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين كما يقولون. نعم، من حقك أن تطالب الناقد بذوق أنتجه طول النظر في روائع الفن فتضمن له شيئا من سلامته وحسنه، دون أن تقع في تناقض القول؛ وذلك ما أخذ به الآمدي نفسه؛ وما ظفر منك بالتأييد حين عقبت على قوله بقولك: «ومن الواضح أنه في هذه الفقرة يريد أن يقرر الحقيقة الثابتة من أن النقد ملكة مستقلة لا بد من أن تدرب على تلك الصناعة ...» (ص93)، بل ذلك هو ما أثبته أنت في مستهل كتابك حين قلت في الصفحة الأولى منه: «أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية.»
Unknown page