هذه النظرية الصادقة كانت رائد فتحي باشا في خدمته لوطنه منذ خرج من المدرسة إلى أن مات، فإنه في سنة 1888 أخذ يترجم كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، فلم يتمه، ولكنه ترجم بعد ذلك «أصول الشرائع» لبنتام، و«خواطر وسوانح في الإسلام» للكونت هنري دي كلترى، و«روح الاجتماع» و«سر تطور الأمم» لجوستاف لوبون، و«جوامع الكلم» لجوستاف لوبون، وقد نشرت هذه الكتب كلها، وله فوق ذلك كتاب «بورجار» في الاقتصاد السياسي، و«تمدن العرب» لجوستاف لوبون، و«جمهورية أفلاطون» و«الفرد ضد المملكة» لسبنسر.
أما مؤلفاته، فهي كتاب المحاماة، ورسالة في التزوير، وشرح القانون المدني، وقد ألف قبيل وفاته كتابا في «التربية العامة».
نابغة في الترجمة
عرفت مترجماته وقرأت المنشور منها، وتصفحت غير المنشور، وأستطيع أن أقول من غير تردد: إن فتحي زغلول كما كان نابغة في الفقه، كان نابغة في الترجمة يمسك الكتاب يقرؤه أولا، ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب، فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين، ومن التراجم ما تترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته، فلا يكون لها تأثير، أما مترجمات فتحي زغلول، فإنك تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق.
دخلت عليه في بيته يوما بمصر الجديدة في يوم حر شديد، فألفيته يضع شرح القانون المدني، وإلى جانبه «سر تطور الأمم» وقد فرغ من ترجمته في بضعة أسابيع لازم بيته فيها لمرض أصابه، فأشفقت عليه من هذا الجهد الشاق في ذلك الجو المحرق، على ما نعهده فيه من رقة في الصحة وعمل دائم طول سنة العمل، وقلت له: «أبهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟!» فأجاب: «نعم، هذه هي رياضتي!»
فعجبت لجلده وصبره وتفانيه في خدمة العلم وخدمة بلاده.
شخصية ممتازة
كان لفتحي باشا شخصية ممتازة في طريقة أسلوبه البياني، ولم يكن يترجم ليترجم، ولا طلبا للشهرة والمال من وراء ذلك، وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفاءته التي ما كانت يوما موضعا للشك من أحد، سواء في ذلك أصدقاؤه وحساده، وعارفوه وغير عارفيه، ولكننا إذا أجملنا مترجماته دلنا مجموعها على أنه كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.
غرضه نشر مبادئ الحرية: حرية الفرد، وحرية الأمة، وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعا إلى اتخاذ مثل أعلى قبلة لهم في آمالهم الوطنية.
منذ سنة 1882 كان يرى الأمة تتقلب في أحوال متناقضة مبهمة، فكانت تسوءه هذه الأحوال، ويود لو أن الشعور الوطني الذي كان وقتئذ في حذر مستمر ولى وجهه قبل الاستقلال على نحو منتج، كان يود لو تدرك الأمة أن إبهام الغرض وعدم إدراكه بوضوح يجعله مستحيل المنال، لذلك أراد أن يقدم للجمهور «العقد الاجتماعي» لروسو حتى يتبين الجمهور حق الأمة وما يجب أن يكون لها من السلطان.
Unknown page