اشتغل بالدين، فنفى منه كثيرا جدا من التقاليد الكنائسية المادية على الأخص، واتخذ له إنجيلا خاصا به اتبعه كثيرون في تعاليمه.
وقد كان تولستوي على ذلك كله يجب أن يحسب في كتاب الحقيقة (كتاب الواقع) لا كتاب الخيال (الذين يكتبون عن الإنسان باعتبار ما يجب أن يكون لا باعتبار ما هو في الواقع)، فإني أذكر أن قصته الموسومة ب «البعث» لم يكن فيها عن الشهوات إلا حقائق عريانة، لاحظ فيها تغليب الشهوة على النبل في نفس بطل الرواية، ثم أظهر فيها أغلاط العدل الإنساني على صورتها التي كانت قد فارقته مؤقتا عند استحكام الشهوة، وذلك ما نجده عاما في الإنسان كل يوم، ثم رجع إلى تأثير الوسط، وتغلب ميول النساء مما لا يشذ كثيرا عن الأمثلة اليومية التي يجدها مخالطهن، ولو كان غير عمار ذي كناز الذي قال فيهن:
أراح الله عمارا
من الدنيا ومن هن
قريبان بعيدان
فلا كانا ولا كن
يمنين الأباطيل
ويجحدن الذي قلن
كذلك كان وصفه لحال الزوجية في قصصه «لاسونانت اكرتزر» غير ناب عن الواقع، وإن وصفه فيه غير عام في العائلات مع السرور، ولقد سبب له هذا الكتاب امتعاض السيدات منه، واتهامهن له فيما كتب، وأرسلن له خطابات الانتقاد والشتم، وعندنا أنه في هذا الكتاب لم يكن خياليا، ولا كاتب واقع إلا كما كان (إميل زولا) في كتاب: (الاسوموار)؛ فإن عيشة الناس ليست كلها سكرا، وليست كل الأبنية، ولا غالبها في المدائن حانات وخمارات! كما أن جميع النساء لسن على تلك الحال التي وصفها، ولا ريب في أن تولستوي أراد أن يبين عيوب التربية الحاضرة وقتئذ، وأنماطها المتخذة لتعليم البنين والبنات، فكتب هذا الكتاب؛ ليجعل الناس يلمسون بالحس نقص تلك التربية؛ ليلفتهم إلى التربية التي لها قاعدة من الاعتقاد الديني ترتكز عليها لتأتي بنتائج السعادة المنشودة في العائلة، أقول: إن هذا النظر لا يخرج تولستوي من كتاب الواقع، كذلك يؤكد زعمنا سؤاله: «ما العمل؟» و«الذي يجب عمله»، وإن كان له ما يصح أن يجعله من كتاب الخيال كبعض قطع «الايمبتاسيون» و«حرب وسلام»، فكذلك لا يكون إلا لأن عادة عدم التقيد بالمذاهب الضيقة التي اتخذها شعارا له قد غلبت عليه، وليس لنا أن ندخل في بحث موضوعاته الدينية، وتعاليمه اللاهوتية، بل نترك الحكم على ذلك لغيرنا. (2) فتحي زغلول
أرى من الوفاء لمبادئ الحرية وخادميها أن اذكر صديقا عظيما عمل لنشر هذه المبادئ، هو المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا؛ فقد نظر نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها، فرأى أنها أحوج ما تكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي تبغي الوصول إليه من نظمها السياسية والاجتماعية حتى تتحد أطماعها الوطنية على طريقة عامة واضحة، ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلماء هي نقل العلم إلى أوطانهم بالترجمة ... إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.
Unknown page