Qiṣṣat al-falsafa al-ḥadītha
قصة الفلسفة الحديثة
Genres
نحن تعساء إذا تزوجنا، تعساء إذا بقينا بغير زواج، تعساء لو اعتزلنا، تعساء إذا خالطنا المجتمع، وإن الحياة لمأساة مبكية وملهاة مضحكة «فلو ألقيت نظرك على حياة الفرد في مجموعها ... بحيث ترى أبرز ملامحها وأدلها معنى، لما وجدتها في حقيقتها إلا مأساة متصلة، أما إذا تناولت بنظرك تفصيلاتها فإنك تراها ملهاة.» انظر إلى الحياة نظر باحث مدقق. «يدخلونك وأنت صبي في الخامسة مغزل قطن أو مصنعا آخر، فتظل منذ تلك الساعة تذهب إلى مصنعك كل يوم، فتقضي فيه أول الأمر عشر ساعات، ثم اثنتي عشرة، ثم أربع عشرة، تؤدي أثناءها عملا آليا لا يتغير، وأنت مضطر إلى هذا لكي تشتري بأغلى الأثمان أنفاسك التي ترضي بها إرادة الحياة ... وإن تحت القشرة الأرضية الراسخة لقوى طبيعية كامنة جبارة، إذا ما أتاحت لها الحادثات أن تنطلق من كمينها فلا مناص من تهديمها للقشرة الأرضية بكل ما عليها من أحياء، كما حدث ثلاث مرات على الأقل فوق أرضنا هذه، ويرجح أن يحدث أكثر من هذا في مقتبل الأيام. إن زلزال لشبونة، وزلزال هايتي
Haiti
وتقويض بومبي، ليست إلا لمحات صغارا عابثات تشير إلى ما يمكن حدوثه.»
فليس التفاؤل أمام كل هذه المصائب إلا سخرية من كوارث البشر. وصفوة القول: «إن طبيعة الحياة تبدو لنا في كل ما تبدو فيه من صور كأنما هي مقصودة ومدبرة، بحيث تدعونا إلى العقيدة بأن ليس فيها البتة ما هو جدير منا بالجهاد والمجهود والقتال، وما طيبات الحياة كلها إلا عبثا، والعالم في كل ما يقصد إليه فاشل، فهو كالعمل الذي لا يغطي مصاريفه.»
لكي تكون سعيدا ينبغي أن تكون في جهل الشباب الذي يحسب أن العزم والجهاد سببان للسعادة؛ لأنه لم يعلم بعد ظمأ الرغبة الذي لا ينطفئ وما ينجم عنه من بلاء، ولم يعلم أيضا أن الرغبة حتى لو تحققت فليس في تحقيقها نفع ولا ثمرة، ثم هو لم يستيقن بعد أن خاتمة الجهاد هزيمة ليس منها مفر، «وإن فرح الشباب ونشاطه يرجعان من ناحية إلى أن الموت يكون خافيا عنا حينما نكون صاعدين أكمة الحياة؛ لأنه يكمن هنالك في الجانب الآخر ... فإذا ما دنونا من ختام الحياة، فإن كل يوم نحياه يبعث فينا نفس الإحساس الذي يحسه المجرم في كل خطوة يخطوها في طريقه إلى المقصلة ... لكي يعلم الإنسان أن الحياة قصيرة لا بد أن يعيش طويلا ... فإلى عامنا السادس والثلاثين نكون - من حيث طريقة بذلنا لنشاطنا الحيوي - أشبه بالذين يعيشون على أرباح أموالهم، يأخذون في الغد ما ينفقونه اليوم، ولكن موقفنا بعد السادسة والثلاثين من عمرنا يكون كموقف صاحب المال الذي يبدأ في الإنفاق من رأس ماله ... وإن فزع الإنسان من هذه الكارثة هو الذي يجعل حبه للامتلاك يزداد كلما تقدم في السن ... إن أسعد أوقات الحياة ما بعد عن الشباب، وما أصدق أفلاطون في ملاحظته التي أوردها في مستهل جمهوريته من أن الأفضل أن يعطى أحسن الجزاء لذي السن المتقدمة؛ لأن الشيخوخة تحرر صاحبها من العاطفة الحيوانية التي لم تفتأ تحركه حتى ذلك الوقت ... ومع ذلك فلا يجوز لنا أن ننسى أنه إذا ما خمدت هذه العاطفة ذهب معها لب الحياة الحقيقي، حيث لا يبقى إلا القشرة الجوفاء، ومن ناحية أخرى تصبح الحياة حينئذ كالمهزلة التي بدأت بممثلين حقيقيين، ثم استمرت هكذا، وانتهت آخر الأمر بأشباح آلية ارتدت ملابس أولئك.»
ثم يلاقي الإنسان منيته آخر الأمر، ومن العجب أنه إذ أخذت الخبرة والتجربة في التحول إلى حكمة، بدأ المخ والجسم عامة في التدهور «إن كل شيء لا يلبث إلا لحظة، ثم يسرع في طريقه إلى الموت.» وإذا سوفت المنية للإنسان فصبرت عليه ومدت في أجله قليلا، فهي إنما تلعب به كما تلعب القطة بالجرذ الذي لا حول له ولا قوة «فمن الواضح أنه كما أن المشي ليس بالبداهة إلا سقوطا نقاومه مقاومة مستمرة، كذلك حياة أبداننا ليست إلا موتا نستمر في مقاومته، هي موت نسوف في حدوثه طول الحياة.» ومن أجل هذا ترى «طغاة الشرق يضعون في ثنايا حليهم الفاخرة ولباسهم الزاهر قارورة ثمينة من السم.» ففلسفة الشرق تفهم وجود الموت وجودا متصلا دائما، وهي تخلع على طلابها مظهرا هادئا ومشية بطيئة رزينة، ناشئان من إدراكهم لقصر الوجود الشخصي. إن خشية الموت هي بدء الفلسفة، وهي العلة النهائية للدين، ولما كان أوساط الناس يعجزون عن التوفيق بين أنفسهم وبين الموت، تراهم يتخذون فلسفات وديانات لا يكاد يحصرها العد، وإن ما يسود الناس من عقيدة في الخلود لدليل على خوف مفزع من الموت. «وإذا كنا نصطنع اللاهوت ليكون مهربا من خوف الموت، فكذلك قد ينتابنا الجنون ليكون مهربا من الألم.»
يجيء الجنون وسيلة يتخذها ليتجنب بها ذكرى الألم، فهو قطع في سلسلة إدراك الإنسان، وقد تكون فيه نجاته. «ما أكثر ما يفكر الإنسان في أشياء - رغم إرادته - تسيء إلى مصلحته أشد الإساءة وتجرح عزته، وتعطل رغباته. فما أعسر أن يصر الإنسان على وضع هذه الأشياء أمام عقله للبحث الجدي الدقيق ... ففي مقاومة الإنسان لإرادته وقسرها على أن تسمح لما هو نقيضها أن يوضع تحت بحث العقل، تقع الثغرة التي يمكن للجنون أن ينفذ منها إلى العقل ... فإذا قاومت الإرادة العقل في استيعاب معرفة ما، بحيث تمكنت من تعطيل عملية العقل تعطيلا لم يستطع معه العقل أن يؤدي عمله على الوجه الأكمل، عندئذ يتكون في العقل عناصر وظروف معينة تكبت فيه كبتا تاما؛ لأن الإرادة لا تتحمل رؤيتها، فتنشأ بذلك فجوات لا بد من ملئها كما تهوى الإرادة، وبهذا ينشأ الجنون؛ لأن العقل في هذه الحالة قد تنازل عن طبيعته لكي يرضي الإرادة فيصور الخيال للإنسان ما ليس له وجود، ولكن الجنون الذي نشأ على هذا النحو هو في الواقع نسيان لألم لم يكن للإنسان به قبل، إنه آخر وسيلة تنجينا من الإرادة المضنية.»
أما آخر أبواب الهرب فهو الانتحار، حيث يتغلب الفكر والخيال على الغريزة وهذا عجيب، ويقال في هذا الصدد أن «ديوجنيس» قد وضع حدا لحياته برفضه أن يتنفس، فما أروعه انتصارا على إرادة الحياة، ولكنه انتصار فردي فقط؛ لأن الإرادة لا تزال مستمرة في حياة النوع. إن الحياة لتضحك من الانتحار وتبتسم للموت؛ لأنه إذا تعمد الموت فرد واحد، أنسل إلى جانبه آلاف الأفراد نسلا عن غير عمد «إن الانتحار وهو قضاء إرادي على الوجود الظاهري للفرد، عبث وحمق؛ لأن الشيء في ذاته - أعني النوع والحياة والإرادة بصفة عامة - لا تتأثر به وتظل كما يظل قوس قزح، حتى ولو أسرعت نقط الماء التي تكونه إلى السقوط.» إن العناء والكفاح يبقيان بعد موت الفرد، ولا بد أن يستمرا ما دامت الإرادة تسود الإنسان، ويستحيل أن ينتصر الإنسان على أمراض الحياة، إلا إذا أخضع الإرادة خضوعا تاما للمعرفة والعقل. (6) حكمة الحياة (أ)
الفلسفة:
تأمل بادئ بدء في حمق الرغبة حين تنزع إلى الأشياء المادية، إذ يظن المغفلون أنهم إذا استطاعوا أن يجمعوا المال الكثير، أمكنهم أن يجيبوا إرادتهم إلى كل ما تريد؛ لأنهم يفرضون أن صاحب الثروة الطائلة يملك الوسيلة لإشباع كل رغباته «وكثيرا ما يعاب على الناس رغبتهم في المال قبل أي شيء آخر، وحبهم له أكثر من كل ما عداه، ولكنه من الطبيعي، بل مما ليس عنه للناس منصرف، أن يميلوا إلى شيء فيه قابلية دائمة للتحول إلى أي شيء مما قد تنزع إليه رغباتهم الكثيرة الهائمة. أما كل شيء ما خلا المال فلا يستطيع أن يشبع من الإنسان إلا رغبة «واحدة» فقط، فالمال وحده هو الخير المطلق ... لأنه استجابة مجردة لكل الرغبات.» ولكن مع هذا فإن حياة تتجه بكلها إلى تحصيل الثروة لا خير فيها، إلا إذا عرفنا كيف نحول تلك الثروة إلى سعادة، وهذا فن يحتاج إلى ثقافة وحكمة. إن الرغبات الحسية المتتابعة يستحيل أن ترضى وتقتنع، ولا بد للإنسان أن يفهم أغراض الحياة كما لا بد أن يفهم فن تحصيل الوسائل للحياة «فالناس أميل ألف مرة إلى أن يكونوا أغنياء منهم إلى تحصيل الثقافة، مع أن اليقين الذي لا شك فيه هو أن سعادة الإنسان تتوقف على ثقافة الإنسان أكثر مما تعتمد على ما يملكه.» فالرجل الذي ليس له مقدرة عقلية لا يدري كيف يملأ فراغه «ومن العسير أن نطمئن في الفراغ.» ولذا ترى غير المثقف يندفع اندفاع المنهوم الشره إلى البحث عن حاجات حسية جديدة، حتى يخر آخر الأمر صريعا مهزوما أمام الآلهة الجبارة التي نيط بها الانتقام من الأثرياء والكسالى وهي السآمة.
Unknown page