98

Qiṣṣat al-falsafa al-ḥadītha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

فليت الثروة هي الطريق القويم، وإنما هي الحكمة. ففي الإنسان جانبان: فهو من ناحية جهاد عنيف من الإرادة التي مركزها الجهاز التناسلي، وهو من ناحية أخرى شخص خالد حر حكيم ذو معرفة خالصة ومركزها المخ، ومن العجيب أن يكون في إمكان المعرفة أن تسيطر على الإرادة مع أنها وليدتها، وإن إمكان استقلال المعرفة عن الإرادة ليبدو أولا في استخفاف العقل أحيانا بمطالب الرغبة «فقد يرفض العقل أن يطيع الإرادة، مثال ذلك حينما نحاول عبثا أن نركز عقولنا في شيء ما (أعني تريد الإرادة أن يفكر العقل فيرفض العقل أن يطيع) أو حينما نطالب الذاكرة في غير طائل أن تتذكر شيئا ما ائتمنتها الإرادة على حفظه ، وإنه لتتضح العلاقة بين الإرادة والعقل واختلافهما وضوحا تاما في غضب الإرادة من العقل في مثل هذه الأحوال. وقد يتأثر العقل أحيانا من غضب الإرادة فيستحضر ما أريد منه بعد بضع ساعات، أو في اليوم التالي، وقد يفعل هذا على غرة وبغير مناسبة.» ثم قد ينتقل العقل فيكون سيد الإرادة بعد أن كان تابعها، فقد يقدم الإنسان مثلا على عمل فيه عناؤه بعد تفكير طويل، فقد ينتحر أو يقتل أو يبارز أو يأتي بعمل آخر مما فيه خطر على الحياة، ومما تثور ضده طبيعته الغريزية، ولكنه مع ذلك يقدم مدفوعا بعقله وتفكيره، فأنت ترى من ذلك إلى أي حد استطاع العقل أن يسيطر على الطبيعة الحيوانية في مثل هذه الظروف.

إن هذه القوة التي يتمتع بها العقل والتي يمكنه بها أن يؤثر في الإرادة تسمح للإنسان أن يرسم لنفسه طريقا يضمن له الرقي والتقدم، فهو بالمعرفة يستطيع أن يعدل الرغبة أو أن يخمدها، كما يمكنه أن يعدلها أو يخمدها بما قد يدركه من الفلسفة الجبرية التي تعترف أن كل شيء نتيجة حتمية لسوابقه، فبين كل عشرة مثيرات مما يعرض لنا ويعكر صفونا نستطيع أن نتغلب على تسعة منها، ولا ندعها تنال من نفوسنا شيئا إذا نحن أدركنا عللها إدراكا تاما، أي إذا عرفنا حقيقة طبيعتها وضرورة وقوعها، ففي مكنة العقل أن يكون من إرادة الإنسان ما يكون السرج والشكيمة من الجواد الجموح، فليس أدعى إلى ضمان الانسجام والتوفيق بين الإنسان وبين الحادثات الخارجية أو المشاعر الباطنية إلا المعرفة الدقيقة، فكلما ازددنا عرفانا لعواطفنا قلت سيطرتها علينا. وأمنع قلعة نحتمي بها هي ضبطنا لنفوسنا. فإذا أردت أن يخضع كل شيء لسلطانك فلتخضع نفسك لعقلك. وإن أعجب من يسترعي الإعجاب ليس من يقهر الدنيا ويحكمها، ولكنه الذي يخضع نفسه ويلجمها.

وهكذا تصفو الإرادة بفعل الفلسفة، ولكن ينبغي أن نفهم أن معنى الفلسفة هو التجربة والفكر، وحذار أن تظنها مجرد القراءة والدرس. «إن تدفق أفكار غيرنا في نفوسنا تدفقا دائما لا بد أن يحصر أفكارنا ويضغطها، ثم يشل قوة تفكيرنا في النهاية ... إن نزوع معظم العلماء إلى القراءة هو نوع من امتصاص الفراغ، ذلك أن إجداب عقولهم يسحب أفكار الآخرين إلى الداخل سحبا لا محيص عنه،

13 ... وإنه لمن الخطر أن نقرأ عن موضوع قبل أن نفكر فيه أولا بأنفسنا ... فنحن حين نقرأ إنما يفكر لنا شخص آخر، ولا نكون حينئذ إلا معيدين لعمليته العقلية ... لذلك لو قضى شخص كل يومه في القراءة فقد بالتدريج ملكة تفكيره ... فالخبرة التي نستمدها من الحياة يصح أن تعتبر ضربا من المتن، وشرح هذا المتن هو التفكير والمعرفة، فإذا حصل إنسان على مقدار كبير من التفكير والمعرفة العقلية وعلى تجربة قليلة، كان كتلك الكتب التي يكون في كل صفحة من صفحاتها سطران من المتن، وأربعون سطرا من الشرح.»

فأول ما نتقدم إليك به من النصح هو أن الحياة قبل الكتب، والنصيحة الثانية هي أن يكون المتن قبل الشرح. فاقرأ إنتاج الخالقين المبدعين قبل أن تقرأ العارضين والنقاد «فلا يمكنك أن تحصل الأفكار الفلسفية إلا من المؤلفين أنفسهم؛ ولهذا فمن يرى في نفسه ميلا إلى الفلسفة ينبغي أن يبحث عن معلميها الخالدين في محراب مؤلفاتهم الهادئ.» فكتاب واحد من كتب العباقرة يساوي ألفا من كتب الشراح.

لن يكون تحصيل الثقافة مجديا إلا إذا أخذت نفسك بهذه الحدود، فإن فعلت ذلك استطعت أن تحصل على وسيلة للسعادة؛ لأن سعادتنا تعتمد على ما في عقولنا أكثر مما تتوقف على ما تحويه جيوبنا، بل إن الشهرة نفسها عبث وحمق «إذ لا تصلح رءوس الناس أن تكون دارا لسعادة الرجل الحقيقية؛ لأنها مكان خبيث.» «إن السعادة التي نستمدها من أنفسنا لأعظم من تلك التي نحصل عليها مما يحيط بنا ... إن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تتشكل حسب الكيفية التي ينظر بها إليها ... وما دام لا يوجد شيء بالنسبة لإنسان، ولا يحدث له إلا ما يوجد وما يحدث في إدراكه فقط، فأهم شيء له هو تركيب إدراكه ... ولذا فقد صدق أرسطو حين قال: «إن الإنسان إذا أراد أن يكون سعيدا فليكف نفسه بنفسه».»

لا سبيل لخلاص الإنسان من شر رغبات الإرادة التي لا نهاية لها إلا في تأمل الحياة تأملا عقليا، ودراسة ما كتبه نوابغ العصور كلها من جميع الأمم «فالعقل غير الأناني يصعد كالرائحة الزكية فوق أخطاء الإرادة ومهاتراتها.» وإن الجمهرة العظمى من الناس ليعجزهم أن يرتفعوا بأنفسهم عن النظر إلى الأشياء باعتبارها مواضع شهوة ورغبة، ومن هنا ينشأ ما هم فيه من بؤس، فنظرك إلى الأشياء نظرا خالصا باعتبارها موضوعا للفهم معناه ارتفاع عن القيود إلى حيث الحرية. «إذا ما جذبنا فجأة من سبيل الرغبات المتدفق عامل خارجي وميل داخلي فخلص المعرفة من استبداد الإرادة، بحيث لا يعود انتباهنا يتجه إلى دوافع الرغبة، بل إلى تفهم الأشياء، وهي حرة مما يربطها بالإرادة من روابط، ثم ينظر إليها نظرة لا يشوبها شيء من الهوى الشخصي والنزعة الذاتية، أي ينظر إليها نظرة موضوعية خالصة إذا انصرف العقل بكليته إلى الأشياء باعتبارها أفكارا لا باعتبارها دوافع مثيرة للرغبة، عندئذ يرفرف علينا السلام الذي طالما نشدناه، والذي ما فتئ يفلت منا في ذلك السرداب؛ سرداب الرغبات ... وعندئذ نحيا حياة لا ألم فيها، وهي الحياة التي امتدحها «أبيقور» وقال إنها الخير الأسمى، وإنها حياة الآلهة؛ لأننا سنكون حينئذ أحرارا من كفاح الإرادة التعس.» (ب)

العبقري:

والعبقري هو أعلى صورة من صور هذه المعرفة اللاإرادية، وأحط ألوان الحياة هو ما تألف من إرادة صرفة بغير معرفة، والإنسان بصفة عامة أغلبه إرادة وأقله معرفة. أما العبقري فهو من كان معرفة في معظمه وإرادة في أقله «والعبقرية إنما تكون في هذا: أن تنمو الملكة العارفة نموا يزيد عن المقدار الذي تتطلبه خدمة الإرادة زيادة عظيمة.» ورجحان العقل في إنسان على الإرادة معناه انتقال بعض القوة من النشاط التناسلي إلى النشاط العقلي «والصفة الأساسية للعبقرية هي سيطرة غير طبيعية للحساسية والغضب على القوة التناسلية.» ومن ثم كانت العداوة بين العبقري والمرأة التي تمثل التناسل كما تمثل خضوع العقل لإرادة الحياة، نعم «قد يكون للنساء موهبة عظيمة، ولكنها ليست عبقرية؛ لأنهن دائما ذاتيات في وجهة نظرهن.» فكل شيء عندهن شخصي وينظرن إليه كوسيلة لأغراض شخصية، مع أن العبقرية ما هي إلا النظرة الموضوعية الخالصة، أعني أنها ميل العقل؛ لأن ينظر إلى الأشياء من وجهة نظر موضوعية محضة. العبقرية هي القوة التي يتمكن بها الفرد من نبذ مصالحه ورغباته وأغراضه ومحوها جميعا من أمام عينيه، هي القوة التي يستطيع بها العبقري أن ينسى شخصيته نسيانا تاما إلى وقت معين، لكي يكون ذاتا عارفة خالصة ليس إلا، وبذلك يتمكن من رؤية العالم في وضوح وجلاء، ولهذا فلفظ العبقرية ينحصر معناه في سيادة المعرفة ورجحانها على الإرادة.

إذا تخلص العقل من الإرادة استطاع أن يرى الشيء كما هو «فالعبقرية تعرض علينا المرآة السحرية التي يظهر لنا على سطحها كل ما هو حيوي ذو معنى متجمعا بعضه إلى بعض، وموضوعا في ضوء ساطع، أما ما هو عرضي زائد فينبذ جانبا.» إن الفكر لينفذ خلال العاطفة كما يتدفق ضوء الشمس خلال السحاب، فيكشف عن لب الأشياء وصميمها، إنه يذهب إلى ما وراء الفرد والجزئي حتى يصل إلى «المثال الأفلاطوني» أي إلى الجوهر الذي يكون الشيء الجزئي صورة من صوره، فالمصور الفنان هو الذي لا يقصر نظره على الشخصية الفردية التي يرسمها وعلى ملامحه المعينة المرئية، ولكنه ينفذ من خلال هذا الفرد فيرى وراءه صفات الإنسانية عامة، وحقيقتها الدائمة التي ليس هذا الفرد المعين إلا رمزا لها ووسيلة للكشف عنها، وقل هذا في كل ضروب النبوغ. فسر العبقرية إذن يقع في إدراك الحقيقة الموضوعية والجوهرية العامة إدراكا واضحا، لا تشوبه شائبة من ميل شخصي أو هوى ذاتي.

Unknown page