Qissat Falsafa Haditha

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
72

Qissat Falsafa Haditha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

وكان «كانت» قد نشر في سنة 1784م عرضا موجزا لنظريته السياسية بعنوان: «المبدأ الطبيعي للنظام السياسي، وعلاقته بفكرة التاريخ الدولي العام»، وقد بدأ هذا الكتاب بالبحث في موضوع النزاع بين الفرد والمجتمع، ذلك النزاع الذي فزع له «هوبز» وأنكره، أما «كانت» فقد أقر هذا التنازع، بل أوجبه وحتمه قائلا: إنه لا مندوحة عنه لاطراد التقدم، فلو بلغت النزعة الاجتماعية في الأفراد أقصى حدودها لركد الإنسان وخمد نشاطه، فلا بد من النزعة الفردية التي توجب التنافس، إذ بغير ذلك لا تتهيأ للبشر الحياة والنمو، فلولا ما لدى الناس من صفات فردية لعاشوا في انسجام تام وقناعة وحب متبادل، ومثل هذه الحياة يقتل المواهب ولا يحفزها للظهور، «فنحن نحمد الطبيعة على ما وهبتنا إياه من صفة غير اجتماعية أدت إلى اشتعال الغيرة، وإلى رغبة لا تنتهي في الملك والقوة ... إن الإنسان يود لو لم يكن بينه وبين الناس شيء من التنافر، ولكن الطبيعة كانت أعلم منه بما ينفع نوعه، فهي تريد التنافر، حتى يضطر الإنسان إلى إظهار قواه في كل حين، وإلى شحذ مواهبه الطبيعية بغير انقطاع.»

فليس التنازع من أجل البقاء شرا، ومع ذلك فقد قيده الناس بقيود القوانين وحدود العادات والتقاليد، ومن هنا نشأت وتقدمت الجماعة المدنية، وإن النزعة الفردية في الإنسان (أي جانبه غير الاجتماعي) هي التي دعت الإنسان أول الأمر إلى الاجتماع؛ لأن الفردية تستصحب الاعتداء واستعمال القوة وحب الذات، فأراد الناس أن يقي بعضهم شر بعض، فألفوا الجماعة، والعجيب أن هذا الجانب الاجتماعي نفسه هو الذي يدعو كل دولة الآن إلى التمسك بحريتها من حيث علاقتها بالدول الأخرى، والنتيجة أن كل دولة تتوقع دائما من الدول الأخرى نفس الشرور التي كان يعتدي بها الأفراد بعضهم على بعض أول الأمر، والتي اضطرتهم إلى التعاقد في اتحاد مدني ينظمه القانون. ولقد حان الحين للأمم أن تفعل ما فعلته الأفراد من قبل، فتخرج من حالتها الطبيعية الوحشية، ويتعاقد بعضها مع بعض لحفظ السلام، وإن لب التاريخ ومعناه هو الحد من الخصومة والعنف والاعتداء الذي بين الدول، وهذا توسيع متواصل لدائرة السلام، ولو نظرت إلى تاريخ الجنس البشري كوحدة وجدته يحقق خطة خفية للطبيعة دبرتها وقصدت إليها، أرادت بها أن يسود في العالم نظام سياسي يتيح لكل الملكات والمواهب التي وضعت بذورها في الإنسانية أن تنمو نموا كاملا، فإن لم يسر التاريخ في هذا السبيل لكانت الدنيا في سيرها أشبه ما تكون «بسيسيفوس

Sisyphus » الذي أراد أن يصعد إلى قمة الجبل بحجر ضخم مستدير، فكان كلما قرب من القمة عاد الحجر فتدحرج إلى بطن الوادي، نعم لو لم يسر التاريخ نحو تلك الغاية التي قصدت إليها الطبيعة لما كان إلا عبثا يدور في حلقة مفرغة.

ويشكو «كانت» في هذه الرسالة السياسية من أن «حكامنا لا يملكون من المال ما ينفقونه على تعليم الشعب. فقد خصصوا الموارد كلها لحساب الحرب القادمة.» وهيهات أن تتمدن الأمم حقا حتى تنمحي كل هذه الجيوش القائمة، وما أجرأ «كانت» في هذه الصيحة، إذ كانت بروسيا عندئذ تكاد تجند الشعب كله «إن الجيوش القائمة تثير شهوة المنافسة في الدول، فتتنافس في عدد جنودها، وليس لهذا العدد حد يقف عنده، وبسبب ما يكلف هذا من مال، يصبح السلم في نهاية الأمر أكثر ظلما من حرب قصيرة، ولذلك كثيرا ما يكون وجود الجيوش سببا في حروب عدائية تقبل عليها الدول؛ لكي تتخلص من هذا العبء.» وذلك لأنه في زمن الحرب يعتمد الجيش على نفسه في تهيئة ما يلزمه من مدد، إما سلبا من أرض العدو، أو أخذا من أرض مواطنيه، وحتى هذه الحالة الأخيرة خير من إرهاق مالية الدولة في الصرف على الجيش.

ويرى «كانت» أن النزعة إلى الحروب التي تتملك الدول الأوروبية ترجع في معظمها إلى توسع أوروبا في أمريكا وإفريقيا وآسيا، كما ينشأ بين اللصوص من معارك على الغنائم، وإنه لمما يروعك أن ترى ماذا تفعل هذه الدول الأوروبية المتمدنة إذا ما استكشفت أرضا في إحدى تلك القارات. إن مجرد زيارتهم لتلك الشعوب تعتبر في نظرهم مساوية لغزوها، فهم عندما استكشفوا أمريكا - موطن الزنوج - عاملوها كأنها بلاد لا يملكها أحد، واعتبروا سكانها الأصليين كمية مهملة ... وقد وقع هذا كله من أمم ملأت الدنيا صياحا بورعها وتقواها ... فبينا هذه الأمم تسقي الظلم كالماء، تريد أن تعد نفسها صفوة أصفياء الله.

ولقد عزا «كانت» هذا الشره والاستبداد إلى الحكومات الأولجاركية في أوروبا؛ إذ تسربت الأسلاب والغنائم إلى أيد قليلة، أما إذا قامت الديمقراطية ، وأخذ كل إنسان بقسطه من القوة السياسية، فإن غنائم السرقات الدولية ستوزع توزيعا واسعا عادلا بين أفراد الأمة كلهم، فلا يصيب الواحد إلا مقدار ضئيل لا يغري، وإذن فالمادة الأولى من شروط السلام الأبدي هي هذه: «يجب أن يكون الدستور المدني لأية دولة جمهوريا، ولا يجوز أن تعلن حرب إلا إذا استشير المواطنون جميعا.» فإذا أعطينا لهؤلاء الذين يقومون بالحرب حق الاختيار بين السلم والقتال، فلن يعود التاريخ يسطر بالدماء، أما إذا لم يكن الفرد عضوا في الدولة يحسب لرأيه حساب، أعني إذا لم تكن الحكومة جمهورية، فإن تقرير الحرب يصبح أهون شيء عند الحكومة القائمة؛ لأن الحاكم لا يكون في مثل هذه الحالة مواطنا كبقية المواطنين، ولكنه يكون مالك الدولة، ولا يصيب شخصه من الحرب أية خسارة أو أذى، بل قد تزيد في أسباب نعيمه وهو في قصوره بين الموائد والولائم، ولذلك فما أهون عليه أن يقضي بالحرب كأن الأمر لا يزيد على رحلة للصيد، وأما تبريرها فما عليه إلا أن يركن في ذلك إلى الهيئات السياسية التي لا تتردد قط في أن تقدم للملك ما يريد من خدمات!

لقد بعث انتصار الثورة الفرنسية أول الأمر روح الأمل في نفس «كانت» فرجا أن يعم النظام الجمهوري أوروبا جميعا، وأن تسود الديمقراطية ويزول الاستعباد والاسترقاق، وأن ينشر السلم لواءه فوق الربوع؛ فوظيفة الحكومة هي معاونة الفرد على النمو لا أن تستذله وتستغله «فاحترام كل فرد واجب باعتبار الفرد غاية مطلقة في حد ذاته، وإنها لجريمة ضد شرف الإنسانية أن نتخذ من الفرد وسيلة لغرض كائنا ما كان.» وعلى ذلك فإن «كانت» يدعو إلى المساواة بين الأفراد، فيما يتاح لهم من فرص النمو وإظهار القوى والمواهب، ويرفض كل ضروب الامتياز والتفاوت في الأسر والطبقات، وهو يعلل كل الامتيازات الوراثية بانتصار حربي ظفرت به الأسر الممتازة في الأيام الماضية.

ظل «كانت» رغم شيخوخته نصيرا للديمقراطية والحرية في الوقت الذي كادت تجمع أوروبا كلها على مقاومة الثورة الفرنسية وتدعيم العروش الملكية، فلم يشهد التاريخ قبله كهلا شايع الحرية بحرارة الشباب وحماسته كما فعل، ثم غلب عليه ضعف الشيخوخة ووهنها فأخذ يذبل ويذوي ويتحول إلى سذاجة الكهولة التي انقلبت آخر الأمر إلى مس خفيف من الجنون، وأخذت قواه تتفانى ومشاعره تبرد حتى كان عام 1804م، وكانت سنه تسعا وسبعين، فأسلم الروح هادئا، وسقط كما تسقط ورقة ذابلة في الخريف.

نقد وتقدير

هذا هو البناء الشامخ الذي شيده «كانت» وألفه من المنطق، والميتافيزيقا، وعلم النفس، والأخلاق، والسياسة، فليت شعري ما شأنه اليوم بعد أن وقف أمام العواصف الفلسفية قرنا كاملا؟ إنها لم تنل منه إلا قليلا، فلا تزال الفلسفة «الكانتية» حتى اليوم قائمة قوية الأركان؛ إذ شقت الفلسفة النقدية مجرى جديدا في تاريخ الفكر فغيرت من اتجاهه، وإذا كان قد أصابها شيء من الوهن، فما ذاك إلا في التفصيل والعرض دون الأساس والجوهر.

Unknown page