Qissat Falsafa Haditha

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
73

Qissat Falsafa Haditha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

فأول ما أخذ عليه من وجوه النقد فكرته عن المكان، فهل أصاب «كانت» فيما ذهب إليه من أن المكان صورة ذهنية يستعملها العقل لصياغة الإحساسات لا أكثر؟ نستطيع أن نجيب على ذلك بالإيجاب والنفي معا، فهو كذلك لأنه فكرة ذهنية تظل فارغة، حتى تملأ المدركات الحسية، إذ ليس معنى المكان إلا أشياء بعينها في موضع معين بالنسبة إلى الشخص المدرك، أو هو مسافة تقاس بالنسبة إلى أشياء مدركة، ويستحيل على الإنسان أن يدرك الأشياء الخارجية إدراكا حسيا إلا وهي في مكان، وإذن فلا شك أن المكان صورة ضرورية لا بد منها للحس الخارجي، وهو ليس كذلك؛ لأن ثمة من الحوادث ما يقع في المكان دون أن يدركها الإنسان إدراكا حسيا، وفي مثل هذه الحالة يكون المكان مستقلا عن الإدراك الحسي، ولا يكون كما قال «كانت» صورة عقلية يستخدمها الإنسان في صياغة المدركات الحسية، ومثال ذلك دورة الأرض حول الشمس، فهذه تتم في المكان دون أن يدركها الإنسان بحواسه، فليس صحيحا ما زعمه «كانت» من أن الإنسان يتلقى إحساسات لا مكانية فيخلع عليها عقله المكان، بل الصحيح أننا ندرك المكان في نفس الوقت الذي ندرك فيه الأشياء المحسة.

كذلك ليس الزمان حقيقة ذاتية فحسب، بل هو كذلك موضوعي موجود في الخارج بغض النظر عن الإنسان، فهذه الشجرة المعينة ستنمو، ثم تكتهل، ثم تذوي وتتلاشى سواء أدركنا نحن مرور الزمن عليها وقسناه أم لم ندركه.

لقد أراد «كانت» فيما يظهر أن يقيم الدليل على أن المكان ذاتي محض، وليس له وجود في الخارج، عساه ينجو من نتائج المذهب المادي، فخشى أن يقرر موضوعية المكان ولا نهايته، فينتج عن ذلك وجود الله في المكان، ووجوده في المكان معناه ماديته.

ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن العلم الحديث قد انتهى بنظرية النسبية إلى نفس ما قاله «كانت» عن الزمان والمكان إذ تقرر نظرية النسبية أن المكان المطلق والزمان المطلق ليس لهما وجود، ولكنهما موجودان فقط إذا وجدت الأشياء والحوادث، أي إنهما صور للإدراكات الحسية.

كذلك يؤخذ على «كانت» ما ذهب إليه من أن الحقيقة مطلقة من حيث الثبوت واليقين لا كما قال عنها «هيوم» إنها لا تزيد على احتمال وترجيح، فقد جاءت الأبحاث العلمية الحديثة مؤيدة «لهيوم» معارضة «لكانت»، إذ ساد الرأي القائل إن كافة العلوم حتى الرياضيات الدقيقة، نسبية في حقيقتها، وأصبح العلم يقنع برجحان كفة الاحتمال دون أن يطالب بحقيقة مطلقة؛ لأنه أدرك أن هذه مستحيلة، وحتى لو كانت موجودة فليس للإنسان حاجة إليها.

ولعل أعظم ما أتى به «كانت» برهنته على أن الإنسان لا يعلم من العالم الخارجي إلا ما تجيئه به الحواس، وأن العقل ليس صفحة بيضاء قابلة تخط فيها التجارب ما تشاء، بل فاعل إيجابي يتلقى التجارب الحسية، فيختار منها ما يريد، ويبنيها بما لديه من صور ذهنية موروثة فيه ... ولكن هنالك من يشكون في فطرية هذه الصور الذهنية، أي في وجودها عند الإنسان قبل أن يصل إليه من الخارج إحساس ما. فيقول «سبنسر»: إن ذلك قد يكون صحيحا في الفرد، ولكنه خطأ بالنسبة للجنس كله، أعني أن الإنسان كجنس قد استمد هذه الصورة الذهنية من العالم الخارجي، ثم ورثها لأفراده، وهناك من يقول إن هذه الصورة الذهنية مجار فكرية، أو عادات كونتها بالتدريج الإحساسات، ثم المدركات الحسية، فأصبح للإنسان بعد تكوينها القدرة على الإدراك الحسي والعقلي، ويقول هذا الفريق من المفكرين إن الذاكرة (أي الصور الحسية المحفوظة في الذهن، والتي جاءت من الخارج على مر الأيام) هي التي تفسر الإحساسات التي تأتينا عن طريق الحواس المختلفة، وهي التي تنظمها وتبوبها وتحولها إلى مدركات حسية، ثم تحول هذه المدركات الحسية إلى أفكار. فالذاكرة هي التي تسبب ما للعقل من وحدة وتماسك، وإذن فوحدة العقل مكسوبة لا موهوبة كما قال «كانت»، وقد يفقد الإنسان ما اكتسبه من وحدة العقل في بعض الحالات كالجنون مثلا، وعلى ذلك تكون كل مدركاتنا العقلية من صنعنا وليست فطرية موروثة.

وقد تناول الناقدون نظرية «كانت» في الأخلاق فأنكروا إطلاقها وفطريتها، وقال أشياع مذهب التطور: إن شعور الإنسان بواجبه ليس صادرا من أخلاقية فطرية كما ذهب إليه «كانت»، ولكنه مستمد مما أودعه المجتمع في الفرد من قواعد للسلوك، فالأخلاق لم تهبط إلى الإنسان كما هي، بل هي الثمرة الأخيرة لتطور امتد ردحا طويلا من الزمان، وليست الأخلاق عامة مطلقة، ولكنها قانون للسلوك ينمو ويتطور بما هو ملائم لحياة الجماعة، وهي متغيرة بتغير الجماعة وظروفها. فالنزعة الفردية مثلا تكون منافية للأخلاق في شعب يحاصره العدو، ولكنها تكون خير الوسائل في أمة آمنة هادئة للرقي والنشاط، فليس هناك عمل خير في ذاته كما يقول «كانت».

وقد استرعى النظر أن «كانت» قد عاد في كتابه النقدي الثاني فأقر بوجود الله، وحرية الإرادة، وخلود الروح، بعد أن كاد ينفرها جميعها في كتابه الأول. ولقد قال عنه أحد النقاد: «إنك تشعر في كتب «كانت» كأنك في سوق ريفية يمكنك أن تشتري منها ما تشاء، حرية الإرادة وجبرها، المثالية وتنفيذها، الإلحاد والإيمان بالله، فهو أشبه شيء «بالحاوي» الذي يستطيع أن يخرج من مخلاته الفارغة كل شيء، إذ تراه يستخرج من فكرة الواجب إلها وخلودا وحرية.» ويعتقد «شوبنهور» أن «كانت» كان في حقيقة الأمر شاكا نبذ العقائد لنفسه، ولكنه تردد في أن يهدم عقائد الناس إشفاقا على الأخلاق العامة من الفساد: «إنه زعزع اللاهوت القائم على العقل، ثم ترك اللاهوت الشعبي دون أن يمسه، لا بل دعمه باعتباره عقيدة مبنية على الشعور الأخلاقي ... فكأنه أدرك الخطأ الناجم من هدمه اللاهوت العقلي، فأسرع إلى اللاهوت الأخلاقي يستمد منه بعض الدعائم الواهنة المؤقتة عسى أن يظل البناء قائما حتى يتمكن من الهرب قبل أن تقع عليه الأنقاض.»

ولكن مهما يقل النقاد عن إيمان «كانت» من أنه يبطن إلحادا، فإن لهجة الفيلسوف في مقالته عن «الدين في حدود العقل الخالص» تدل على إخلاص شديد، وإيمان قوي، ولقد كتب «كانت» إلى أحد أصدقائه يقول: «حقا إنني كثيرا ما أفكر في أشياء وأوقن بصحتها ... ولكني لا أجد في نفسي الشجاعة للتصريح بها، ومع هذا يستحيل علي أن أقول شيئا لا أعتقد بصحته.» وليس بعجيب أن تتضارب آراء «كانت» لما يكتنف رسالته العظيمة من غموض وتعمق، ولقد قيل في هذا الكتاب بعد نشره: «لقد أعلن المتدينون بأن «نقد العقل الخالص» محاولة شاك يريد بها أن يزعزع يقين المعرفة.» وقال الشاك: «إنه ادعاء فارغ يحاول به أن يبني صورة جديدة من الجمود الديني على أنقاض الأنظمة الجديدة.» وقال من يعتقدون بما فوق الطبيعة إنه حيلة مدبرة لمحو الأسس التي يقوم عليها الدين وإقامة المذهب الطبيعي. وقال الطبيعيون: إنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان التي تحتضر. وقال الماديون: إنها مثالية تريد أن تنقض حقيقة المادة. وقال الروحانيون: إنه تحديد لا مبرر له للحقيقة وحصرها كلها في الأجسام المادية. والواقع أن عظمة الكتاب هي في تقديره لكل وجهات النظر، ولعله قد وفق بينها وصهرها جميعا في وحدة متماسكة، لم تر الفلسفة لها ضريبا في كل عهدها الماضي. (2) المثالية الذاتية

Subjective Idealism (2-1) فخته

Unknown page