ولكن يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية، إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى كنه الأشياء ولبابها - إلى الأشياء في أنفسها - فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي نعرف بها الظواهر (أي الزمان والمكان والسببية وغيرها) تورطنا في التناقض والخطأ، وإقامة الدليل على ذلك هو موضوع: «الميتافيزيقا السامية».
البحث السامي فيما وراء الحس
Transcendental Dialectic
ولكن إذا كان العلم صحيحا مطلقا، وإذا كانت الحقيقة خالدة، فذلك على شرط أن يتعدى الإنسان بعلمه ميدان التجربة والظواهر؛ لأننا لا ندري من الأشياء إلا ما ظهر لنا منها في تجربتنا. فالعالم كما نعرفه بناء قد اشترك في تشييده عاملان، العقل من ناحية، والأشياء نفسها من ناحية أخرى، العقل بما لديه من قوالب وصور، والشيء بما يبعثه من المؤثرات التي تؤثر في الحواس وأطراف الأعصاب. فظاهر الشيء كما يبدو لنا قد يكون مخالفا كل المخالفة للشيء الخارجي قبل أن يجيء في دائرة حواسنا. ويستحيل على الإنسان أن يعرف كيف كان ذلك الشيء في أصله وحقيقته؛ لأنه لا يعرف إلا ما يصادفه في تجربته، فإن وقع «الشيء في ذاته» في حدود التجربة، تحول أثناء مروره خلال الحواس والفكر، «إننا نجهل ماهية الأشياء وحقيقتها المستقلة عن إدراك الحواس جهلا تاما. إننا لا ندري من الأشياء إلا كيفية إدراكنا لها، ولما كانت تلك الكيفية خاصة بنا لم يكن من الضروري أن يشترك فيها كل الكائنات، ولو أنها ولا ريب عامة بين البشر جميعا.»
إن القمر كما نعرفه لا يزيد على حزمة من الإحساسات (كما ارتأى هيوم) وحدها العقل (وذلك ما فات هيوم) بأن حول الإحساسات إلى إدراكات حسية، ثم الإدراكات الحسية إلى مدركات عقلية وأفكار، وإذن فالقمر بالنسبة لنا هو عبارة عن أفكارنا ... ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أن «كانت» قد أنكر وجود المادة ووجود العالم الخارجي، بل هو يعترف بتلك المادة، وإنما يزعم أننا لا نعرف شيئا يقينيا عنها أكثر من أنها موجودة وأن كل ما تصل إليه من علم يتعلق بظاهرها، أي بما لدينا عنها من إحساسات، فشطر كبير من كل شيء قد خلفته صور الإدراك الحسي والعقلي. فنحن نعلم الشيء بعد تحوله إلى فكرة، أما ماذا كان الشيء قبل هذا التحول فهذا ما نعجز عنه كل العجز، وإذا ظن العلم أنه يعالج الأشياء في أنفسها أي كما هي في حقيقتها فهو ساذج مخدوع، والفلسفة أشد من العلم انخداعا إن زعمت أن مادة العلم كلها لا تتألف من مدركات الإنسان الحسية والعقلية، بل من الأشياء نفسها.
ومعنى ذلك أن كل محاولة يبذلها العلم أو الدين في أن يصل إلى الحقيقة النهائية محاولة نظرية فاشلة؛ لأنه لا يمكن للعقل أن يتعدى الظواهر الحسية، فإن مضى العلم والدين في ذلك تورطا في التناقض والخطأ. ووظيفة «الميتافيزيقا السامية» أن تبين موضع الخطأ في محاولة العقل أن يتخطى دائرة الحس والظواهر، وأن يدخل في عالم الأشياء في أنفسها مع أنه عالم مجهول ... فمثلا إذا حاول العقل أن يحكم هل العالم محدود أو لا نهائي - من حيث المكان - وقع في تناقض وإشكال؛ لأنه سيجد نفسه مضطرا إلى رفض الفرضين كليهما، فنحن من جهة نتصور أن وراء كل حد شيئا أبعد منه، وهكذا إلى ما لا نهاية، ثم يتعذر علينا من ناحية أخرى أن نتخيل اللانهاية في ذاتها. كذلك لو حاول العقل أن يعرف هل كان للعالم ابتداء زمني وقع في الإشكال نفسه؛ لأننا لا نستطيع أن نتصور الأزلية التي ليست لها نقطة ابتداء. ولكنا في الوقت نفسه لا يمكن أن نتصور لحظة ماضية نسميها بدء الزمن، إذ لا يسعنا إلا أن نشعر بأنه قد كان قبل تلك اللحظة الأولى شيء، ثم لو تساءل العقل هل لسلسلة العلة والمعلول بدء، أي هل للعالم علة أولى نشأ عنها، أمكن له أن يجيب بالإيجاب والنفي معا، فبالإيجاب لأنه لا يستطيع أن يتصور سلسلة لا نهاية لها، وبالنفي لأنه لا يمكن تصور علة أولى لا علة لها، هذه كلها مشاكل ومتناقضات لا يمكن للعقل أن يتخلص منها إلا إذا وضع نصب عينيه أن المكان والزمان والعلة ليست إلا وسائل للإدراك الحسي والإدراك العقلي، وبغيرها لا تكون لنا تجربة ولا معرفة، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن نتوهم أن المكان والزمان والسببية أشياء خارجة عنا، مستقلة عن إدراكنا، فعلى الرغم من أن كل ما نصادف من تجارب لا يمكن فهمه إلا إذا صغناه بعبارات الزمان والمكان والسببية، فلن تكون لنا فلسفة صحيحة إذا فاتنا أن هذه ليست أشياء واقعة، ولكنها طرق لتفسير التجارب وفهمها فقط.
كذلك لو حاول اللاهوت أن يبرهن بالعقل النظري أن الروح خالدة لا يجوز على «عنصرها» الفساد، وأن الإرادة حرة من قيود «السببية»، وأن في الكون كائنا واجب الوجود هو الله، نقول: لو حاول اللاهوت ذلك لوقع في مثل إشكال العلم، ويجب أن يذكر اللاهوت أن «العنصر» و«السببية» و «الضرورة» كلها صور عقلية ووسائل يتبعها العقل في تبويب وتنظيم التجربة الحسية، فهي إذن لا تكون صحيحة قويمة إلا إذا طبقناها على الظواهر الحسية التي تأتي بها التجربة. أما إذا تعدينا ذلك وطبقناها على المدركات العقلية، فهنالك الخطأ والتناقض، وعلى ذلك فلا يمكننا أن نبرهن على صحة الدين بالعقل النظري.
هكذا ينتهي الكتاب الأول في النقد، وكأننا «بديفد هيوم» ينظر إلى هذه النتائج التي وصل إليها «كانت»، والتي أراد بها أن يبني ما هدمه «هيوم»، فيبتسم ابتسامة ساخرة! علام انتهى هذا الكتاب الضخم العميق الذي أراد أن ينقذ العلم والدين من معاول الشك؟ لقد حدد العلم وحصره في عالم الظواهر، فإن تغلغل إلى لباب الأشياء وحقيقتها زل وأخطأ، وهكذا أنقذ العلم! ثم زعم أن حرية الروح وخلودها وأن وجود إله خالق مما يستعصي على العقل أن يقيم عليه الدليل، وبهذا أنقذ الدين! ولا عجب أن رجال الدين في ألمانيا رفضوا هذا الإنقاذ واحتجوا عليه، وأرادوا أن ينتقموا لأنفسهم من الفيلسوف، فأطلق كل منهم على كلبه اسم «عمانويل كانت».
ولقد قارن «هيني
Heine » بين «كانت» الضئيل النحيل و«روبسبير» المروع الجبار، فقال: إن «روبيسبير» لم يقتل إلا ملكا وبضعة آلاف من الفرنسيين - وهي جريمة قد يتسامح فيها الرجل الألماني - أما «كانت» فقد قوض الدعائم التي يرتكز عليها بناء اللاهوت «لشد ما يختلف مظهر هذا الرجل عن آرائه الهدامة التي زلزلت العالم! فلو كان أهل كونسبرج قد قدروا كل ما تستتبع أفكاره من خطر، لارتاعوا لوجود هذا الرجل أكثر مما يروعهم سفاك لا يقتل إلا الكائنات البشرية، ولكن الناس كانوا من الطيبة بحيث لم يروا فيه إلا أستاذا للفلسفة، إذا ما خرج في ساعته المحددة هزوا له رءوسهم يحيونه تحية الصداقة، وأخذوا يضبطون ساعاتهم.»
Unknown page