ها نحن قد نجونا بالرياضة فأثبتنا يقينها بعد أن طاح بها شك «ديفد هيوم»، فترى هل نستطيع ذلك في بقية العلوم؟ نعم ذلك مستطاع لو أثبتنا صحة قانونها الأساسي، قانون السببية الذي مؤداه أن العلة المعينة يجب دائما أن يتبعها معلول معين، فلو أقمنا الدليل على أن هذا القانون فطري موروث تمليه طبيعة عقولنا كما هي الحال في الزمان والمكان لثبتت علوم الطبيعة كما ثبتت من قبلها الرياضة.
التحليل السامي
Transcendental Analytic
يحاول «كانت» في هذا الفصل أن يجيب على السؤال الثاني وهو: هل في فطرة الإنسان ما يمكنه من معرفة قوانين الطبيعة؟ وبهذا ينتقل «كانت» ببحثه من ميدان التجربة الفسيح إلى غرفة العقل الضيقة المظلمة؛ ليرى ماذا يصنع العقل بالمدركات الحسية التي تكونت فيه مما جاء إليه من آثار حسية من العالم الخارجي. فيقول: إنه كما أن أشتات الأحاسيس المتفرقة قد تجمعت بفضل صورتي الزمان والمكان، فتكون منها مدركات حسية، كذلك يتناول الفكر هذه المدركات الحسية نفسها فيصبها فيما لديه من قوالب ذهنية، فيؤلف بينها وينسج منها مدركات عقلية وأحكاما كلية ، وعندئذ فقط؛ أعني عندما تتكون في العقل هذه المدركات الذهنية، يكون في العقل محتويات فكرية، وأما قبل ذلك فهو فارغ خال. أي أن المعرفة الصحيحة لا تبدأ إلا بتحويل المدركات الحسية إلى مدركات عقلية؛ إذ المعرفة معناها التفكير فيما لديك من إدراكات حسية. وكما أن الفكر بغير إدراك حسي يظل فارغا كذلك الإدراكات الحسية إذا ظلت كذلك دون أن تتحول إلى مدركات عقلية فهي عمياء.
وهكذا يستطيع العقل بما لديه من صور ذهنية أن يرتفع بالمعرفة الحسية للأشياء إلى معرفة عقلية لما بين تلك الأشياء من علاقات، وما يسيرها من قوانين، فهي التي تهذب التجربة التي تأتي إلينا عن طريق الحواس حتى تصيرها علما. وإذن فالعقل الذي تصوره «لوك وهيوم» قطعة قابلة من الشمع تشكلها التجربة الحسية كيف شاءت، يراه «كانت» فعالا يتلقى التجربة فيبوبها وينظمها ويصوغها في فكر منسجم. خذ مثلا نظاما فكريا كفلسفة «أرسطو»، ثم سائل نفسك كيف يمكن أن يكون هذا النظام المتسق الشامل قد تم بناؤه بطريقة آلية، وأن ما بناه هو المفردات الحسية نفسها التي جاءت إلى عقله من الخارج في تزاحم وفوضى، دون أن يتناولها بالتنظيم عقل فعال؟
انظر إلى تلك الصناديق التي رتبت فيها بطاقات الكتب في دار الكتب، ثم تصور أن تلك البطاقات قد انتثرت فوق أرض الغرفة، فاختلط بعضها ببعض في غير نظام، فهل تصدق أن في مقدورها أن تتجمع من تلقاء نفسها، وأن تصطف في نظام أبجدي كل نوع في صندوقه الخاص، ثم يسعى كل صندوق إلى مكانه فيستقر فيه؟ هذا ما يريدنا دعاة الشك أن نؤمن به، فهم يطالبوننا أن نعتقد بأن أخلاط الأحاسيس إذا وصلت إلى العقل استطاعت من تلقاء نفسها أن تبوب نفسها، وأن تنتظم في فكر مرتب! كلا، إنما تأتي الإحساسات في خليطها وفوضاها فتتحول إلى مدركات حسية منظمة وتصبح أشياء، ثم تتحول هذه إلى مدركات عقلية أكثر نظاما حيث تكون علما ومعرفة، ثم يسمو هذا العلم نفسه إلى مرتبة أعلى من النظام فيكون حكمة!
فمن ذا الذي أكسب ذلك العلماء نظامه وانسجامه؟ إن هذا التنظيم لم يأت من الأشياء نفسها؛ لأننا لا نعلم تلك الأشياء إلا بما نتلقاه من أحاسيس، وهذه تأتينا في ازدحام وكثرة وفوضى سالكة إلينا نوافذ عدة، إنما الذي أكسبها هذا النظام وهذا الاتحاد هو العقل بما يقصد إليه من أغراض، وإذن فلقد أخطأ «لوك» حين قال إنه «ليس في العقل شيء إلا ما كان في الحواس أولا.» وكان «ليبنتز» على حق حين علق على عبارة «لوك»: «لا شيء إلا العقل نفسه.» ... فلو كانت الإدراكات الحسية قادرة وحدها على أن تنظم نفسها بطريقة آلية في فكر منظم، ولم يكن للعقل أثر فعال في تحويل فوضى الإحساس إلى نظام الفكر، فبماذا نفسر أن يتلقى رجلان تجربة حسية واحدة، فيكون الأول متوسط الذكاء، ويرتفع الثاني إلى ذروة الفلسفة والحكمة؟
لا، لا بد أن يكون هناك عقل، ولا بد أن يكون لذلك العقل صور أو قوالب نشأت فيه بالفطرة ولم تأته من التجربة، يمكنه بها أن يصوغ الإحساس في فكر، ومن تلك الصور الفطرية التي يستعين بها العقل على تشكيل الإدراك الحسي وصياغته قانون العلة والمعلول، وهنا ينشأ سؤال: كيف يمكن للعقل أن يطبق صوره الذهنية على الأشياء الحسية حتى يصوغها على نسقها وغرارها؟ إن تلك الصور عقلية خالصة، وهذه الأشياء حسية بحتة، فهل يمكن للعقل والحس على ما بينهما من خلاف أن يتصلا ويتلاقيا؟ يجيب «كانت» إنه لا بد من مرحلة متوسطة تصل هذين الطرفين أحدهما بالآخر، ويقول: إن هذا الوسيط هو «الزمن». فلقد عرفنا في الفصل السابق أن «الزمان» قالب ذهني تتشكل فيه كل الإدراكات الحسية، فلكون «الزمان» فطريا فهو إذن شبيه بالصور العقلية في فطريتها وتجردها، ولكونه صورة للحس فهو يقاسم الأشياء الحسية في صفاتها، وعلى ذلك يكون الزمان حسيا وعقليا فيتمكن بذلك الحس والعقل - الأشياء من ناحية، والصور العقلية من ناحية أخرى - أن يتقابلا على ما يفرق بينهما من تباين وخلاف. ومعنى ذلك أن الصور العقلية لا تؤثر في الأشياء مباشرة ، بل تحتاج في أداء مهمتها إلى وسيط.
ليس ما في العالم من نظام موجودا في الطبيعة نفسها، إنما نظمه الفكر الذي عرفه وأدركه، ونظمه حسب قوانينه هو المتأصلة فيه، أي إنه ليس للعالم الطبيعي قوانين خاصة يسير بمقتضاها غير القوانين والصور الذهنية التي يعمل بها العقل، فقوانين الأشياء هي قوانين الفكر، والعلاقة التي تربط الأفكار بعضها ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء، فإذا كنت ترى العقل يسير في حكمه من المقدمة إلى النتيجة، فإن الأشياء تسير من العلة إلى المعلول، ولا غرابة فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بالفكر، ولهذا الفكر قوانين يجب أن يسير على أساسها، بل الفكر هو قوانينه، فبديهي إذن أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها قوانين الطبيعة، أو كما قال هجل: «إن قوانين المنطق وقوانين الطبيعة شيء واحد.»
إذن فقوانين العلم وأصوله ضرورية يستحيل عليها الاختلال؛ لأنها هي هي قوانين الفكر، وقوانين الفكر مفطورة فيه، نشأت من طبيعة تكوينه وتركيبه، ومعنى ذلك أن نفس القوانين التي سارت على أساسها التجربة في الماضي والحاضر ستظل صحيحة إلى الأبد، وبهذا ينهار صرح الشك الذي بناه «هيوم» ... فالعلم مطلق، والحقيقة خالدة.
Unknown page