Qiṣṣat al-falsafa al-ḥadītha
قصة الفلسفة الحديثة
Genres
ليست دراسة المجتمع باليسيرة الممهدة، بل يعترض سبيلها من العقبات والصعاب ما لا يستطيع التغلب عليها إلا الأفذاذ الفحول، فقد حدث مرة أن رحل رجل فرنسي إلى إنجلترا يقضي بأرضها بعض الوقت ترويحا للنفس وحبا للاستطلاع، فلم يكد ينقضي على إقامته بها أسابيع ثلاثة، حتى اعتزم أن يصدر كتابا عن إنجلترا، إذ خيل إليه أنه قد درس شعبها فأتقن الدراسة، فلما انقضت شهور ثلاثة هم بوضع كتابه، ولكنه أدرك أنه لم يتقن الدراسة بعد، بحيث يستطيع أن يخرج الكتاب الذي يريد، وآثر الروية والأناة، فلما انقضت سنوات ثلاث، اتسع شعوره بالعجز والقصور، وأيقن أنه لا يعلم من موضوعه شيئا ... وهذا صحيح، فقد يخيل للإنسان للوهلة الأولى أن دراسة المجتمع سهلة ميسورة ، ولكنه كلما ازداد علما بدقائقه ازداد يقينا بجهله وعجزه.
فما بالك بالجهود التي بذلها «سبنسر»، وهو لا يريد أن يدرس شعبا بعينه فحسب، بل يقصد إلى دراسة المجتمع الإنساني بأسره، وكيف تطور كيانه من حالة إلى حالة؟ فهو يرى أن المجتمع كائن عضوي، له أعضاء للتغذية وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الأعضاء، وله فوق ذلك تناسل وإفراز، شأنه في كل ألوان الحياة شأن الأفراد سواء بسواء، فهو ينمو، وكلما ازداد نموا اشتد تعقدا، وكلما تعقد ازدادت أجزاؤه استقلالا، وحياة المجتمع - باعتباره كلا - طويلة جدا بالنسبة إلى حياة أجزائه التي يتألف منها، والمجتمع كالفرد، يتعاوره التكون والانحلال، وهما وجها التطور، فنمو الوحدة السياسية من الأسرة إلى الدولة، ثم إلى عصبة الأمم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المنزلية الصغيرة إلى نظام الشركات، ثم إلى الاحتكار، ونمو وحدة السكان من القرية إلى المدينة ... كل هذه ظواهر للتجمع والتكون، ولكنك من جهة أخرى ترى تقسيم العمل وتعدد المهن والصناعات، وتنوع الإنتاج بين الريف والمدن، وبين أمة وأمة، وهي دلائل تشير إلى التنوع والتنافر، وتستطيع كذلك أن تلمس التطور بشطريه - تآلف الأجزاء في وحدة، ثم تنافرها داخل تلك الوحدة - في كل جانب من جوانب المجتمع: في الدين والحكومة والعلم والفن وغيرها.
فقد كان الدين أول الأمر عبادة طائفة من الآلهة والأرواح، فأخذت هذه تتجمع وتأتلف حتى تركزت في إله واحد، ثم عاد التوحيد فتفرع إلى جملة من الأديان وطائفة من العقائد، ولم يتحور الدين في شكله فقط، بل تبدل موقعه من النفوس كذلك، فقد كان المحور الذي تدور حوله رحى الحياة بأسرها؛ ذلك لأنه ألقي في روع الإنسان الأول أن هذه الحياة الدنيا غرور ولهو. ويجب أن يربأ بنفسه أن تنغمس في حمأتها أو تتلوث بأدرانها، ولتكن الآخرة وحدها محطا لآماله ومعقدا لأمانيه، فهي خير من الأولى وأبقى، ولكن ما لبثت وجهة النظر أن تطورت، وتوجه الإنسان بشطر من عنايته نحو هذه الحياة التي يعيش فيها، وأخذت تلك العناية تزداد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق العمل الصناعي.
أما نظام المجتمع فلعل أبلغ ما طرأ عليه من تغير هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي الذي ساد أوروبا إبان العصور الوسطى إلى النظام الاقتصادي الصناعي. ويعتقد «سبنسر» أن تقسيم الحكومات - إلى ملكية وأرستقراطية وديمقراطية وما إلى ذلك - إن هو إلا عرض تافه لا يمس الجوهر والصميم، وأما الحد الفاصل الذي يميز دولة من دولة فهو أساس بنائها الاجتماعي: هل يقوم على النزعة الحربية أم يصطبغ بصبغة الصناعة؟ وبعبارة أخرى تنقسم نظم الاجتماع نوعين: جماعة تعيش من أجل النزال والقتال، كما كانت الحال في نظام الإقطاع، وجماعة لا تجد في الحياة هدفا تتجه صوبه وتحيا به ومن أجله سوى العمل ، فتلك تحارب من أجل الحياة، وهذه تعمل من أجل الحياة.
وللدولة الحربية صفات تلازمها؛ منها أن السلطة تتركز في قبضة الحكومة وحدها، ويغلب أن تكون حكومة ملكية لا تدخر وسعا للتفريق بين أفراد الشعب الواحد إلى طبقات بعضها فوق بعض، فتكون الحرب والفروسية صناعة الأشراف، وللسوقة الصناعة وفلاحة الأرض. كذلك تعظم في الدولة الحربية سيطرة الرجل في الأسرة؛ ذلك لأن الرجال هم عماد الحروب، وأين منزلة الرجل في حومة الوغى من منزلة المرأة قابعة في عقر دارها؟ ويمقت «سبنسر» هذا الضرب من الاجتماع الذي تدور رحى الحياة فيه حول الحرب؛ لأن مصلحة الفرد تذوب وتتلاشى في صالح المجموع، ولأن الدولة لا تقوم إلا على القتل والسرقة، ونحن إن كنا نصم الإنسان الأول بالوحشية؛ لأنه كان يلتهم لحوم البشر فما أجدرنا أن نزدري هذه الدول التي تأكل شعوبا بأسرها في وجبة واحدة! ويعتقد «سبنسر» أن رقي الإنسانية مرهون بإلغاء الحروب، وهو لا يرى سبيلا لتحقيق هذا المثل الأعلى سوى أن تقطع الأمم شوطا بعيدا في الصناعة؛ لأنها تعمل على المساواة والسلام، وهي تقسم السلطة بين أعضاء المجتمع جميعا، ولا تركزها في أيدي الحكومة وحدها، وفضلا عن ذلك فهي تشحذ العقول وتدفعها إلى الابتكار، وهو المعول الهدام الذي يكفل لنا تحطيم التقاليد الوراثية التي تقوي من شوكة الحكومة، وستصبح الوطنية في ظل الصناعة حبا للوطن لا كراهية للأوطان الأخرى، ثم إذا اطرد نموها فستؤدي حتما إلى إزالة الحواجز الجمركية التي تفصل الدول بعضها عن بعض، وعندئذ تورق دوحة السلام وتمتد فروعها حتى يتفيأ ظلها أبناء الإنسانية جميعا، وإذا ما خفقت راية السلام وانمحت الحروب زالت دولة الرجل، ولا يعود له في أسرته كل هذه السلطة التي ينعم بها، ويرتفع قدر المرأة حتى تقف معه كتفا إلى كتف؛ لتشابه ما يؤديان من عمل، وعندئذ فقط يتحقق تحرير المرأة الذي تنشده.
ولما كانت الصناعة تستقي ماء حياتها من العلوم، فلا ريب في أن تقدمها وانتشارها ينتجان تربية التفكير العلمي وصحة الاستنتاج للأسباب من المسببات ، ولن يلجأ الإنسان بعدئذ إلى قوى الطبيعة الخارجة والأبالسة والشياطين يعلل بها أحداث الحياة، وفوق هذا كله سينقلب التاريخ رأسا على عقب، فستزدهر صحائفه بذكر الرجال العاملين بدلا من الملوك المحاربين، وسيفسح في مجاله للمخترعات والأفكار، سيزداد الشعب سلطانا وقوة وتتقلص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوهم العتيق الذي يفرض على الفرد أن يحيا من أجل دولته، وأن يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقا أن الدولة إنما وجدت وأنشئت لصالح الفرد، إن كان هذا هكذا فلا يجوز أن تضحي الحياة من أجل العمل، بل يجب أن يكون العمل أداة تستغلها الحياة في تحقيق السعادة. (7) تطور الأخلاق
على أي أساس نشيد مبادئ الأخلاق؟ وبأي مقياس نزن الخير والشر؟ أما «سبنسر» وأتباعه فلا يترددون لحظة في إخضاع الأخلاق - كأي شيء آخر - لقوانين التطور وانتخاب الطبيعة. وبعبارة أخرى يريدون أن نلقي بزمام الإنسان في يد الطبيعة نفسها تختار له من الأخلاق ما تشاء. وقد ناهضتهم طائفة كبيرة من العلماء والكتاب، يربئون بأخلاقنا التي تواضع المجتمع عليها أجيالا متعاقبة، أن توضع بين مطرقة الطبيعة وسندان التطور، يفعلان بها كيف شاء لهما الهوى. وفي ذلك يقول «هكسلي»: إن علم الحياة لا يصلح دليلا خلقيا بأية حال من الأحوال، إذ كيف نترك مصيرنا في كف الطبيعة العمياء، وهي كما قال عنها «تنسون
Tennyson » الشاعر الإنجليزي: «ملطخة بالدماء نابا ومخلبا.» نعم، كيف نذر الطبيعة تصب في قوالبها ما يطيب لها من أخلاق، وهي كثيرا ما تمجد الوحشية والمكر والخداع، وتمقت الرحمة والعدل والحب؟
ولكن تحدث بهذا المنطق إلى غير «سبنسر»! لا بد أن تخضع مبادئ الأخلاق للانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وليبق من أخلاقنا ما يقف أمام التجربة القاسية، وليفن منها ما تذروه هذه الريح العاصفة، الأخلاق - كأي شيء آخر - تعود على الإنسان بالخير أو بالشر بمقدار ما تساير أغراض الحياة «فالخلق السامي هو ذلك الذي يسير مع الحياة ويشاطرها فيما ترمي إليه.» فلنقبل من الأخلاق ما يلائم الحياة، ولنرفض منها ما يعترض سبيلها ومجراها، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد على البقاء في مضطرب الأهواء المختلفة المتنازعة التي تصدر من أعضاء المجتمع، ولما كانت هذه الملاءمة بين الفرد والمجتمع تختلف باختلاف الزمان والمكان كانت فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسع اختلاف. ويرى «سبنسر» أن الطبيعة قد زودتنا بمقياس دقيق نميز به الطيب والخبيث، وهو مقياس اللذة والألم، فإذا صادف سلوكنا من أنفسنا ارتياحا ورضا كان ذلك دليلا على ملاءمته للحياة الكاملة؛ لأن ذلك الاطمئنان الباطني علامة على أن الطبيعة قد اختارت ذلك السلوك ليكون سبيلا إلى حفظ الحياة، فأنت تستطيع إذن أن تفرق بين الخير والشر بما يبعثه العمل المعين من لذة أو ألم؛ لأنهما دليل ساقته الطبيعة نفسها للتفريق بين هذا وذاك.
تعلم مما تقدم أن الأخلاق يختلف لونها باختلاف البيئة الطبيعية أو الاجتماعية؛ لأن الأولى صدى الثانية وانعكاسها. ولما كان نظام المجتمع في العصور الوسطى أخذ يتطور في كثير من أسسه وقواعده كان حتما أن ينشأ عن هذا التحوير انقلاب في فكرة الأخلاق، فقد كانت أكاليل المجد والفخار لا تعرف موضعا غير هامات الفرسان المقاتلين، فأما هؤلاء الذين يقضون نهارهم في الزراعة والصناعة فعبيد أرقاء حقت عليهم الذلة والهوان، ولكن وجهة النظر أخذت تتطور منذ حلت الصناعة ورسخت قدمها؛ لأنها تعتمد كما قدمنا على القوة العقلية، فأضحى العمل أشرف ما يمارسه الإنسان؛ لأنه عماد المجتمع وسناده، ولما كان العمل لا ينمو ولا يستقيم إلا في ظل العدالة، وهذه لا تورق وتزدهر إلا في جو من الحرية، كانت هذه الحرية أول واجب في عنق الدولة، وقد عرف «سبنسر» العدالة بأن: «كل إنسان حر في أن يفعل ما يشاء، على شرط ألا يتعارض ذلك مع حرية إنسان آخر له ما له من حقوق.» ولا يستقيم هذا التعريف مع نزعة الحرب؛ لأنها تعبد سلطان القوة وتفرض الطاعة العمياء، ولكنه شرط أساسي لنجاح الصناعة؛ لأنها تعتمد على السلام والحرية في الرأي والابتكار.
Unknown page