والترتيب والوضع، وقد بلغ في مصنفه هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعى بكد الحافظة، وتستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل، جنته من طرائف الأزهار العطرية، ومجت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية، فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا له مطالعته كله، فينله ويعله ولا يمله، كأنه أقصوصة حب، أو ديوان شعر، اللهم إلا هذا الكتاب.
أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه، وكثير من مباحثه وفصوله، طوافًا سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك، ثم قرأت فيه بعض ما اختلفت العلماء في تحقيقه، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله، فصح لي أن أصفه وصفًا صحيحًا مجملًا يهدي إلى تفصيل:
صفة للكتاب وما فيه:
فأما تقسيمه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه وضع عناوينها، فهو غاية في الحسن وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها، وجعلها عامة شاملة لوسائلها كمقاصدها، وفروعها كأصولها، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع، بجعلها على أحدث وضع: من ترك بياض واسع بين سوادها، شامل للمعدود بالأرقام من مباحثها، مع إفراط فيه بترك بعض الصفات بعد ختام للفصل أو البحث خالية كلها.
ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر، أن طبعه في هذا العهد الذي توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا من علم الحديث، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية، واجتناب الروايات الموضوعة المنكرة والواهية، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل والتعارض والتراجيح فيها، وبيان
1 / 12