المقدمات:
السيد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي لكاتب الشرق الأكبر أمير البيان المرحوم الأمير شكيب أرسلان:
لا يخفى على أهل الأدب، أن الجمال والقسام في العربي واحد، وأن معنى القاسم هو الجميل. فلا يوجد إذن لتأدية هذا المعنى أحسن من قولنا: "الجمال القاسمي" الذي جاء أسمًا على مسمى، مع العلم بأن الجمال الحقيقي، هو الجمال المعنوي، لا الجمال الصوري، الذي هو جمال زائل. فالجمال المعنوي هو الذي ورد به الحديث الشريف: "إن الله جميل ويحب الجمال".
وعلى هذا يمكنني أن أقول: إنه لم يعط أحد شطر الجمال المعنوي الذي يحبه الله تعالى، ويشغف به عباد الله تعالى، بدرجة المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، الذي كان في هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق، وجمال القطر الشامي بأسره، في غزارة فضله، وسعة علمه، وشفوف حسه، وزكاء نفسه، وكرم أخلاقه، وشرف منازعه، وجمعه بين الشمائل الباهية، والمعارف المتناهية، بحيث أن كل من كان يدخل دمشق، ويتعرف إلى ذاك الحبر الفاضل، والجهبذ الكامل، كان يرى أنه لم يكن فيها إلا تلك الذات البهية، المتحلية بتلك الشمائل السرية، والعلوم العبقرية، لكان ذلك كافيًا في إظهار مزيتها على سائر البلاد، وإثبات أن أحاديث مجدها موصولة الإسناد.
لقد تعرفت إلى العلامة المشار إليه ﵀، منذ ثلاث وعشرين سنة أو أكثر وذلك بواسطة صديقه الأستاذ العلامة نادرة عصره، الشيخ عبد الرزاق البيطار، قدس الله روحه اللطفية، فقد كان هذان الجهبذان فرقدين في سماء الشام، يتشابهان كثيرًا في سجاحة الخلق، ورجاحة العقل، ونبالة القصد، وغزارة العلم، والجمع بين العقل والنقل، والرواية والفهم.
1 / 8
ولم يكن في وقتهما أعلى منهما فكرًا، وأبعد نظرًا، وأثقب ذهنًا، في فهم المتون والنصوص، والتمييز في بين العموم والخصوص؛ وكان وجودهما ضربة شديدة على الحشوية، وتلك الطبعة الجامدة، التي هي وأمثالها صارت حجة على الإسلام في تدهوره وإنحطاطه، وفقده معاليه السالفة.
وقد كنت لا أغشى دمشق مرة من المرار -والله يعلم كم كنت أزورها كل سنة- إلا كان أول ما أبادر إليه زيارة الأستاذين: الشيخ عبد الرازق البيطار، والشيخ كمال القاسمي، رحمهما الله، وجزاهما عن الإسلام خيرًا، وكانت تستمر مجالستي مع كل منهما أو معهما مجتمعين، الساعات الطوال، في الأيام والليال، ولا نشرع بمرورها، بسبب طرافة الحديث، ولطفاة النكات، وجلالة المواضيع، ونصاعة البراهين، وغزارة الشواهد، والنظم بين المعقول والمنقول، والجمع بين الفروع والأصول. فكنت إذا سمعت محاضراتهما نسيت نفسي، ورأيتني في حياة غير الحياة التي أعهدها. وكم حفظت مما سمعته منهما من شوارد، وعلقت من نوادر، وفهمت من حقائق، وتذوقت من رقائق، أنا فيها عيال عليهما وإني لأجر ذيل التية بهذا السند.
وقد كان للشيخ جمال ﵀ عدا إحاطته العلمية، معارف لا يساويه فيها أحد من المجتمع الإسلامي عمومًا، والعربي الشامي خصوصًا. فقد صح فيه ذلك التعريف الذي عرف به بعضهم "العالم" فقالوا: "هو قبل كل شيء العالم بأحوال عصره ومصره".
وقد كنت إذا فارقت ذينك الأستاذين، لا أفتأ أعشو إلى منارهما، وأجاذبهما حبال المراسلة، استفادة منهما على البعد، واستحضارًا في الخيال لروحيهما اللتين هما معدن الأنس.
وعندي منهما كتب أعدها من أنفس الذخائر، وأثمن ما يورثه الأول للآخر. وربما أنشر بعض كتابات الشيخ جمال في أول فرصة تتسنى لي.
وكنت أعلم أن للشيخ جمال تآليف ممتعة، وربما كان يطلعني على بعضها، وربما طالعني ببعض آرائه فيها، واستأنس برأي القاصر، واستوري زندي الفاتر، وهو مع ذلك صاحب الرأي الذي انتهت إليه الأصالة، والقولخ الذي اندمجت فيه الدقة مع الجلالة.
1 / 9
ولكني لم أكن أطلعت على كتابه الذي هو تحت الطبع الآن، المسمى "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" فقد بعث به إلى ولده الأديب السيد ظافر القاسمي، أظفره الله بما أراده، وجعله فرعًا صالحًا لذلك الأصل المنقطع النظير. فرأيت من هذا الكتاب في حسن ترتيبه وتبويبه، وتقريب الطرق على مريد الحديث، والإحاطة بكل ما يلزم المسلم معرفته، من قواعد هذا العلم الشريف ما يقضي بالعجب لمن لم يكن يعرف علو درجة المؤلف، ولكنه مما لا يعجب منه مثلي ممن حضروا مجالسة الزاهرة. وسمعوا تقريراته الساحرة.
وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية، التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، أن لا تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي، الذي قسم الله له من اكتناه أسرار الشرع، ما لم يقسمه إلا لكبار الأئمة، وأحبار الأمة.
والله تعالى ينفع المسلمين بآثاره، ويهديهم في ظلمات هذه الحياة بزاهر أنواره آمين.
جنيف ٥ رجب الفرد ١٣٥٣
شكيب أرسلان
1 / 10
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث؛ لمصلح العصر المرحوم الإمام السيد محمد رشيد رضا:
نُعي إلينا القاسمي في شهر رجب من سنة ١٣٣٢ فكتبت له ترجمة نشرتها في هذا الشهر والذي بعده من مجلد المنار السابع عشر وصفته في أولها بقولي١:
"هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجلد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن، التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث المقنعة صديقنا الصفي، وخلنا الوافي، وأخونا الروحي، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه".
ثم ذكرت تصانيفه ورسائله٢ مرتبة على الحروف فبلغت ٧٩، ومنها هذا الكتاب "قواعد التحديث" الذي عني بطبعه نجله الكريم السيد ظافر القاسمي فتم في هذا الشهر "شوال سنة ١٣٥٣" وكان يرسل إلي ما يتم طبعه منه متفرقًا لأنظر فيه، وأكتب للقراء تعريفًا به، على علم تفصيلي بمباحثه وأسلوبه، وتقسيمه وترتيبه، فأقول:
ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة واسعة أو نهزًا متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيها هذا السفر النفيس كله، فأتذكر به من هذا العلم ما لعلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو الحقيق بأن يقرأ ما كتب، ويحصى ما جمعه، لتحريه النفع، وحسن اختياره في الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم
_________
١ ص٥٥٨.
٢ ص٦٢٨.
1 / 11
والترتيب والوضع، وقد بلغ في مصنفه هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعى بكد الحافظة، وتستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل، جنته من طرائف الأزهار العطرية، ومجت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية، فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا له مطالعته كله، فينله ويعله ولا يمله، كأنه أقصوصة حب، أو ديوان شعر، اللهم إلا هذا الكتاب.
أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه، وكثير من مباحثه وفصوله، طوافًا سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك، ثم قرأت فيه بعض ما اختلفت العلماء في تحقيقه، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله، فصح لي أن أصفه وصفًا صحيحًا مجملًا يهدي إلى تفصيل:
صفة للكتاب وما فيه:
فأما تقسيمه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه وضع عناوينها، فهو غاية في الحسن وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها، وجعلها عامة شاملة لوسائلها كمقاصدها، وفروعها كأصولها، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع، بجعلها على أحدث وضع: من ترك بياض واسع بين سوادها، شامل للمعدود بالأرقام من مباحثها، مع إفراط فيه بترك بعض الصفات بعد ختام للفصل أو البحث خالية كلها.
ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر، أن طبعه في هذا العهد الذي توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا من علم الحديث، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية، واجتناب الروايات الموضوعة المنكرة والواهية، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل والتعارض والتراجيح فيها، وبيان
1 / 12
ذلك في كتاب سهل العبارة، جامع لأهم ما يحتاجون إليه من المصطلحات في الرواية والدراية ووصف دواوين السنة من المسانيد الصحاح والسنن، وكل ما يرشد إلى الاحتجاج والعمل، وأحسن أقوال الحفاظ، ورجال الجرح والتعديل وعلماء أصول الفقه في ذلك، وإنهم ليجدون كل هذه المطالب في هذا الكتاب دانية القطوف، مع زيادة يندر فيها المنكر ويكثر المعروف.
وأما طريقة المؤلف في تدوينه فهو أنه طالع كثيرًا من مصنفات المحدثين والأصوليين والفقهاء والصوفية والمتكلمين والأدباء من المتقدمين والمتأخرين، وكتب مذاكرات فيما اختار منها في هذا الفن وما يتصل به من العلم، ثم جمعها ورتبها كما وصفناها، وقد وفى بعض المسائل حقها، ببيان كل ما تمس إليه حاجة طلابها، وأوجز في بعضها واختصر، إما ليمحصه في فرصة أخرى، وإما ليفوض أمره إلى أهل البحث والنظر، ولا غضاضة عليه في هذا، فإمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري قد سبقه في بعض أبواب جامعه الصحيح إلى مثله.
وقد فتح فيه بعد الخطبة والمقدمة تسعة أبواب لمباحث الحديث: من فضله وعلومه ومصطلحاته، ورواته، وكتبه، ومصنفيها، ودرجاته، وما يحتج به وما لا يحتج به، وحكم العمل به، وغير ذلك من المسائل في نوعي الرواية والدراية، فاستغرق ذلك ٢٥٤ صفحة، وفتح الباب العاشر لفقه الحديث ومكانه من أصول الدين والمذاهب فيه، وما روي وألف في الاهتداء والعمل به، فبلغت صفحاته بهذه المباحث ٣٨٣، يليها الخاتمة وهي في فوائد متفرقة يضطر إليها الأثري.
الكتب التي استمد منها هذا الكتاب:
وأما المصنفات التي استمد منها مباحث الكتاب ومسائله، فأكثرها لأشهر علماء الإسلام من الأئمة المستقلين أو المنتسبين إلى المذاهب المتبعة في الأمصار المعتمدة عند أهلها، وأقلها للمشهورين عند عوام القراء ومقلدة العمائم بالعلم والعرفان، أو بالولاية والكشف والإلهام. لهذا تجد فيه كل فئة من القراء ما تنتقد عليه نقله، من حيث تجد فيه كل فئة ما تعتمد ممن تقبل علمه ورأيه.
1 / 13
وأما المؤلف فغرضه من هذا وذاك، أن تنتفع بكتابه كل فئة من الفئات، فأهل البصيرة والاستدلال يزدادون علمًا ونورًا بما اختاره لهم من كتب الأئمة وعلماء الاستقلال، ولا يضرهم ما لا يوثق به من أقوال المقلدين ومدعي الكشف والإلهام، ولكن الذين يقدسون هؤلاء يجدون من أقوالهم ونقولهم وكشفهم أنهم يتفقون مع الآخرين على أن أصل هذا الدين "الإسلام" الأساسي المقدس المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كتاب الله وكلامه "القرآن العظيم" ويليه ما بينه للناس بأمره من سنة رسوله خاتم النبيين، التي تواترت أو اشتهرت عنه بعمل الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار، ويليها ما صح عند هؤلاء الأئمة من حديثه ﷺ المروي بنقل الثقات، وما دون هذا من الأخبار والآثار التي اختلف الحفاظ في أسانديها أو استشكل فقهاؤهم متونها، فهو محل اجتهاد.
ويجد قارئ هذا الكتاب من أقوال أصناف العلماء ما فيه لعله لا يجده مجموعًا في غيره، وإنني أورد نموذجًا من مباحثه وطريقته في نقوله:
المذاهب في الضعيف والمرسل والموقوف:
من أهم هذه المباحث: أقوال المحدثين في معنى الحديث الضعيف الذي وقع الاختلاف في العمل به، فاستحبه بعضهم في فضائل الأعمال، والأخذ به في المناقب. ومن فروع هذا الاختلاف أن الضعيف في جامع الترمذي ودون الضعيف في مسند أحمد، فيقبل من ضعاف المسند ما لا يقبل من ضعاف الترمذي لأنها تساوي الحسان فيه.
ومنها: الاحتجاج بالحديث المرسل واختلاف المذاهب فيه، واستثناء الجمهور مراسيل أصحابة، وحجتهم وحجة مخالفيهم، والأقوال في الموقوف على الصحابي الذي له حكم المرفوع، والذي يعد رأيا له، والأقوال في عدالة جميع الصحابة في الرواية عند جمهور أهل السنة وحجة مخالفيهم فيها، وغير ذلك من المسائل التي لا يستغني عن معرفتها الذين هداهم الله في هذا العهد إلى الاهتداء بهدي محمد ﷺ على صراط الله الذي استقام عليه السلف الصالح وهي كثيرة. وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى رأيه وفهمه في بعض دون بعض، وما كان لمن يُعنى بكثرة النقل، وعرض وجوه الاختلاف في العلم، أن يمحص المسائل كلها فيه،
1 / 14
ويكون له حكم الترجيح بينها، على أن رأي كل مؤلف في مسائل الخلاف ينتظم في سلك سائر الآراء، والواجب على المطلع عليه من أهل العلم أن ينظر في دليله كدلائل غيره، ويعتمد ما يظهر له رجحانه، كما فعل المؤلف في بحث الجلال الدواني في الحديث الضعيف وأبدى رأيه في الاختلاف فيه إذ قال:
بحث الدواني في الضعيف:
"قال المحقق الجلال الدواني في رسالته أنموذج العلوم: اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت له الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، وممن صرح به النووي في كتبه لا سيما كتاب الأذكار وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام الشرعية الخمسة فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم الأحكام بالأحاديث الضعيفة".
ثم نقل عن الدواني أن بعضهم حاول التقصي من هذا الإشكال، وتصحيح كلام النووي بما أورده وناقش فيه، ثم نقل عن الشهاب الخفاجي مناقشة للدواني في المسألة من شرحه للشفاء، ورد عليه ردًّا شديدًا فوق المعهود من لين الأستاذ القاسمي، بأن حكم على كل مناقشات الخفاجي بأنها عادة استحكمت في مصنفاته لا يحظى واقف عليها بطائل، وأنه سود وجه القرطاس هنا، وأن كلام الجلال غبار عليه، وأن مؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة، وختم الرد بقوله: "فتأمل لعلك تجد القوس في يد الجلال، كما رآه الجمال." ا. هـ.
وأقول: نعم! إنها قد تحلت وتجلت بحلة الجلال والجمال؛ ولو أن الثاني حول نظره عن كتب هذه الطبقة الوسطى من العلماء المستدلين كالدواني والنووي والمناقشة العليمة فيها إلى كتب المناقب والفضائل لجامعي كل ما روي من المحدثين، وكتب الأوراد والتصوف التي لفقها من دونهم من المؤلفين، لوجد فيها من الغلو في الإطراء المنهي عنه والتشريع الذي لم يأذن به الله، ومن الاحتجاج بأقوال الصوفية ومقلدة الفقهاء وعبادتهم المبتدعة، ما فيه جناية على عقائد الإسلام القطعية، ومخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، ولوجدهم
1 / 15
يحتجون عليها بقول من قالوا إنه يجوز الأخذ والعمل بالأحاديث الضعيفة، وهم لا يميزون بين الضعاف التي ألحقوها بالحسن، والمنكرة الواهية التي لم يقل بالأخذ بها أحد والتي نقل لنا القاسمي عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وعن غيره من الإنكار عليها ما نقل، ولعقده لهذا الحديث فصلًا خاصًّا به.
الموضوعات والأحاديث غير المخرجة:
عقد المؤلف المقصد ٤٨ من الباب الرابع للكلام على الحديث الموضوع بعد أن تكلم على الحديث الضعيف بما نقلنا بعضه عنه آنفًا، وأورد في هذا المقصد ١٤ مسألة، الخامسة منها فتوى الشيخ أحمد بن حجر الفقيه الشافعي في خطيب لا يبين مخرجي الأحاديث نقلها من كتابه الفتاوى الحديثية ملخصة، فلم يذكر فيها اعتماده على ما نقله عن الحافظ ابن حجر في منع ولي الأمر لهذا الخطيب من الخطابة إذا لم يكن محدثًا يروي الحديث بنفسه. فعلم بهذا أن ما اشترطه على نفسه من التزام نقل الأقوال بحروفها أغلبي لا مطرد١.
أهم فوائد الكتاب المقصورة منه بالذات:
الجمال القاسمي رحمه الله تعالى من المصلحين المجددين في هذا القرن "الرابع عشر للهجرة" وغرضه الأول من هذا الكتاب بث هداية الكتاب والسنة في الأمة على منهاج السلف الصالح وتسهيل سبيلها، وما أهلك المسلمين في دينهم ودنياهم إلا الإعراض عن هذه الهداية التي شرع الله الدين لأجلها.
ولهذا الإعراض سببان: أهونهما الجهل البسيط، وهو عدم العلم بما خاطب الله الناس في كتابه، وبما بينه لهم رسوله ﷺ منه نسبته وهديه، وربما كان عليه أهل العصر الأول عصر النور من الاهتداء بالكتاب والسنة علمًا وعملًا وخلقًا، وجهادًا وفتحًا وحكمًا بين الناس وأعسرهما وأضرهما: الجهل المركب ووهم التعليم التقليدي لكتب المتأخرين من المتكلمين
_________
١ ناقش السيد الإمام ﵀ ما نقله المؤلف عن نهج البلاغة "ص١٤٤" ولما لم يكن هذا البحث داخلًا في التعريف بالكتاب، وكان السيد قد خيرنا بين إبقائه وحذفه، فقدر تركنا للقارئ مطالعته في المنار.
1 / 16
والفقهاء والصوفية، والاستغناء بها عما كان عليه السلف ومنهم أئمة الأمصار من المحدثين والفقهاء بشبهة شيطانية، هي أن فهم الكتاب والسنة خاص بالمجتهدين وأن المتأخرين من العلماء أعلم بما فهمه المصنفون المقلدون للائمة في القرون الوسطى، وأولئك أعلم بما فهمه الأئمة المجتهدون منهما مباشرة، وأن العلماء على طبقات في تقليد بعضهم لبعض، عدها بعض متأخري الفقهاء خمسًا، وعدها الشعراني من متأخري الصوفية ستًّا، كل طبقة تحجب أهل عصرها عما قبله، حتى تجرأ بعض من يؤلفون ويكتبون في المجلات ممن أعدوا لقب "كبار علماء الأزهر" -وهم الطبقة العاشرة على حساب الشعراني- على التصريح على عصرنا هذا بأن من يؤمن بآيات القرآن في بعض صفات الله تعالى على ظاهرها يكون كافرًا "!!! " وتجرأ بعض من قبله منهم على التصريح في مجلس إدارة الأزهر بأن من يقول إنه يعمل بما صح من الأحاديث على خلاف فقهاء المذاهب فهو زنديق "كما بيناه في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام" وهؤلاء يكرهون علم الحديث وأهله. وقد صرح الحفاظ الأولون بأن الوقيعة في أهل الأثر من أدب أهل البدع كما نقله المؤلف.
نقوله ودروسه وغرضه الاصطلاحي فيهما:
نقل لنا الجمال القاسمي بحسن اختياره وجماله وقسامته في إرشاده، نصوصًا من كتب أشهر الأئمة من علماء الملة المستقلين، وكتب المنتسبين إلى مذاهب الكلام والفقه والتصوف المقلدين، صريحة في اتفاق الجميع على وجوب الاهتداء والعمل بكتاب الله وسنة رسوله، واتباع سلف الملة في الدين، وعلى خطإ من يخالفهم في هذا بما يقطع ألسنة الذين يصدون عن سبيل الله من عميان الجهل المركب، الذين لا يعلمون، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، وهم الذين وصفهم أبو حامد الغزالي بقوله: "أولئك هم العميان المنكسون، وعماهم في كلتا العينين" فهذه حكمة نقله عن كل طبقة من العلماء المشهورين حتى المعاصرين له ولنا من المصنفين، ومحرري المجلات العلمية، ومنها المنار، ومما نقله عنه ما ترى في بحث "قراءة البخاري لنازلة الوباء" ولكنه لم يصرح باسمه ولا باسم صاحبه خوفًا من الحكومة١.
_________
١ يلاحظ أن المؤلف ﵀ أنجز كتابه عام ١٣٢٤هـ - ١٩٠٦ ميلادية، في زمن كانت مجلة المنار فيه ممنوعة على الناس في الأقطار العثمانية.
1 / 17
وصفت الأستاذ القاسمي في ترجمة المنار له بإصلاح، ورددت على من ينكر على هذا الوصف بما بينت طريقته فيه، واستنبطت مما أطلعت عليه من كتبه ومن حديثي معه أربعًا من مزاياه في الاستقامة على هذه الطريقة:
أولاهن: سبب تدريسه لبعض الكتب المتداولة كجمع الجوامع وكتب السعد التفتازاني وما هي كتب إصلاح، بل فنون اصطلاح أشبه بالألغاز.
الثانية: الاستعانة بنقول بعض المشهورين على إقناع المقلدين والمستدلين جميعًا من المعاصرين بما يقوم عليه الدليل.
الثالثة: أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصرف في دروسه ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة بلا زيادة ولا نقصان.
وذكرت شاهدين من شعره على مذهبه هذا.
الرابعة: أنه كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف، واتباع ما يقوم عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل.
وقد أطلت في هذه بما لم أطل فيما قبلها، وذكرت ما أنكره عليه بعض متبعي السلف من أنه خالفهم في كتابه "تاريخ الجهمية والمعتزلة" وكتابه "نقد النصائح الكافية" وبينت ما توخاه من التأليف بين فرق المسلمين الكبرى فيهما، بما لا محل لإعادته هنا، وإنما ذكرت هذا الموضوع لأُذكر به من يستنكر مثله في هذا الكتاب، وقد نقل فيه عن داعية السلف المحقق العلامة ابن القيم سبقه إلى مثله، وتصريحه بأن في كلام كل فرقة ومذهب حقًّا وباطلًا.
كذلك: وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري ﵀ بعده كتاب "توجيه النظر، إلى أصول أهل الأثر" وهو في موضوع "كتاب قواعد التحديث" والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سيين في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري أكثر اطلاعًا على الكتب، وولوعًا بالاستقصاء، والبحث، والقاسمي أشد تحريًا للإصلاح، وعناية بما ينفع
1 / 18
جماهير الناس، فمن ثم كان كتاب الجزائري، وهو أطول، قاصرًا على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء بما لم يفعله القاسمي، ولكنه أطال كل الإطالة بتخليص "كتاب علوم الحديث" للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعًا ثم بما لخصه من "كتاب علل الحديث" لابن أبي حاتم الرازي، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة الحديث إلى الكلام في "الخط العربي وتدرجه بالترقي إلى وصله للكمال الذي عليه الآن، وما يحتاج إليه بعد هذا الكمال من علائم الوقف والابتداء" وهو على إطالته في هذا الفن لم يراعه في العمل فكتابه كأكثر الكتب القديمة، وكتاب القاسمي كما علمت في تقسيمه وتفصيل عناوينه والبياض بينها لتسهيل المطالعة والمراجعة، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة، كما أنه أكثر جمعًا وأعم نفعًا.
وخلاصة القول في تقريظ هذا الكتاب أننا لا نعرف مثله في موضوعه ومقصدًا ومبدأ وغاية، فنسأل الله تعالى أن يحسن جزاء مؤلفه وطابعه، وأن يوفق الأمة للانتفاع به.
محمد رشيد رضا
صاحب المنار.
1 / 19
السيد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي ١:
١- ولادته:
"ولد ضحوة يوم الاثنين لثمان خلت من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف ١٧ أيلول ١٨٦٦ في دمشق"٢.
٢- نسبه:
"هو محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد بن سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكرن المعروف بالقاسمي، نسبة إلى جده المذكور، وهو الإمام فقيه الشام وصالحها في عصره، الشيخ قاسم المعروف بالحلاق، ولا يعرف من أجداده من خدم العلم حق الخدمة إلا جده المنوه به"٢.
٣- نشأته وشيوخه:
نشأ القاسم في بيت عرف بالتقوى والعلم. وكان أبوه فقيها غلب عليه الأدب، ميالا إلى الموسيقى، وله معرفة بأنغامها، حلو الصوت. ففي جو من حرمة الدين وجلاله، وهداه وسلطانه، ورقة الأدب وروائه، وتهذيبه وصفائه، وطلاوة الموسيقى وحلاوتها، وعذوبتها ونشوتها، فتح عينيه على النور. فأعانه هذا كله، كما أعانه تشجيع أبيه على أن ينشأ نشأة صحيحة صالحة. فضلًا عما فطر عليه من عناصر الحق والخير.
أخذ العلم على طريقة القدماء "فقرأ القرآن أولًا على الشيخ عبد الرحمن المصري، ثم تعلم الكتابة، على الشيخ محمود القوصي، نزيل دمشق، من صلحاء الأتراك، ثم انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية، وكان معلمه الشيخ رشيد قزيها، أخذ عنه مبادئ التوحيد والصرف والنحو والمنطلق والبيان والعروض وغيرها".
_________
١ ملخص من كتاب "أبي جمال الدين القاسمي" قيد الوضع.
٢ ما وضع بين نمنمين من كلام القاسمي في ترجمته لنفسه.
1 / 20
"ثم جود القرآن على شيخ القراء الشيخ أحمد الحلواني".
"وكان مواظبًا على دورس الشيخ سليم العطار لقراءة حصة من الكتب المعينة كشرح الشذور، وابن عقيل، وشرح القطر، ومختصر السعد، وجمع الجوامع، وتفسير البيضاوي ... ".
"وسمع منه مجالس من البخاري دراية، وحضر دروسه في الموطأ، والشفاء، ومصابيح السنة، والجامع الصغير، والطريقة المحمدية وغيرها".
وذكر من مشايخة كلا من الشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الخاني، وخال والده الشيخ حسن جبينة الشهير بالدسوقي.
وأجازه كثير من علماء عصره.
٤- إقراؤه وإمامته للناس:
بدأ في إقراء الطلاب مبادئ العلوم، وله من العمر أربعة عشر عامًا. وكان معيدًا لوالده بدرسه العام في جامع السنانية حتى عام ١٣٠٣-١٨٨٧ وانتدب من عام ١٣٠٩-١٣١٢هـ "١٨٩٣-١٨٩٦" لإلقاء دروس عامة خلال شهر رمضان في وادي العجم والنبك وبعلبك. وقام مقام أبيه في الدرس العام بعد وفاته عام ١٣١٧-١٩٠١. وبقي يؤم الناس في جامع السنانية، ويلقي الدرس العام فيه، إلى أن لقي وجه ربه.
٥- عصره:
عاش القاسمي معظم حياته في أشد أيام الظلم والظلام. ولد ونظام الحكم المطلق قائم في الدولة العثمانية -وكانت البلاد الشامية جزءًا منها- فالحريات مفقودة، والأقلام مغلولة، والعقول مقيدة، والصحافة على ضعفها وقلتها مكبلة، والأحرار مطاردون، والدستور معلق والمجالس النيابية معطلة، والناس يحاسبون على الهمسة والنبسة، والجاسوسية تفتك بالأبرياء.
أما العدالة فمفقودة، لفساد النظام القضائي، وشراء مراكز القضاء، وانتشار الرشوة علنا بين موظفي السلطة العامة والمواطنين.
1 / 21
وأما الحياة الثقافية، فكانت مفقودة أو بالمفقودة أشبه، فلا مدارس ولا معاهد، ولا جامعات، والطباعة والصحابة ضعيفتان، ليس فيهما أي غناء. واعتماد القلة من الناس على الكتاتيب، وحلقات الجوامع، والدروس الخاصة في البيوت. والأمية منتشرة لأن الدولة فرضت الجهل المطلق على الناس، ليعشوا في جو من الظلام والغباء، وليس على الحكم والمستغلين أطراد الأمور في سلك من الظلم والبطش والخضوع.
وكان حال الحياة الدينية نتيجة طبعية للحياة الثقافية: جمود على القديم، وكتب صفراء يتداولها الطلاب، ومتون كثيرًا ما يحفظونها بدون فهم، وحواش وشروح وتقريرات وتعليقات تزيد في اضطراب عقول الطلاب وتشويشها.
وتقليد أعمى غلت معه العقول، فكتب الحديث لا تقرأ إلا للتبرك. وكتب التفسير ممتنعة عن الخاصة بله العامة. ولا يقرأ الناس إلا كتب الفقه التي وضعها المتأخرون. أما كتب اللغة والنحو والصرف والأدب وما إليها فيقرؤها بعض الطلاب على أنها أداة لفهم الكتاب والسنة، لا لذاتها.
وكانت الطرق، في ذلك العصر، في أوج انتشارها، يعتنقها بعض رجال الدين ويجمعون العامة حولهم، ويشغلونهم عن العمل النافع لإقامة المجتمع الإسلامي الصالح.
والحياة الاجتماعية كانت مفقودة فلا ندوات، ولا جمعيات إصلاحية، ولا حلقات اجتماعية، حتى ولا جمعيات خيرية.
والمرأة التي هي نصف المجتمع غائبة عنه، فليس لها في خدمته إلا نصيب قعيد البيت.
في هذا الجو الخانق العجيب، المتخلف في جميع مرافق الحياة، نشأ القاسمي، فكان كالطائر المغني في غير سربه، غريبًا عن أهل الزمان. ولعل هذا كله كان أدعى لإقدامه، والاقتناع بقدسية رسالته، وضرورة العمل لها، والسعي لنشرها، والمضي في تبليغها.
٦- ثقافتة العامة:
أخذ القاسمي معارفة الأولى على الطريقة المألوفة في عصره. ثم أخذت الآفاق تتسع أمامه،
1 / 22
فعكف على مكتبته الخاصة التي أسسها جده وأبوه، ينهل من معينها، ثم أخذ يتابع تطور الحرة العلمية في جميع نواحيها، راغبًا في الإحاطة بجميع أنواع المعرفة، لو أن الإحاطة ممكنة، وعنون ثقافته العامة مكتبته الخاصة، والكتب التي ألفها.
فأما مكتبته الخاصة، التي تنوف على ألف مجلد، فلم يخل كتاب فيها من تصحيح أو تعليق وترى فيها إلى جانب كتب التفسير والحديث والفقه واللغة والتصوف والأدب والتاريخ والأصول وغيرها، كتب الفلسفة القديمة والحديثة، والاجتماع، والرياضيات، والقانون المقارب، وكتب الفرق الإسلامية كالمعتزلة والظاهرية والشيعة الزيدية وغيرها.
كما أنها ضمت مجموعة قاربت مائة كتاب من كتب الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية.
وأما الكتب التي ألفها فترى فيها إلى جانب كتب التفسير والحديث والأصول، كتابًا في تاريخ دمشق، ورسالة في الجن، وكتيبًا في الشاي والقهوة والدخان، ومقالة عن القلب، وسفرا في دلائل التوحيد، وكتابًا في الآداب والأخلاق، إلى غير ذلك مما تراه واضحًا في أسماء كتبه.
وتقرأ هذه الكتب، فترى أنه عرف الاشتراكية قبل أكثر من نصف قرن، وما مدلولها، وما معناها، في وقت كان الذين سمعوا بها في العالم العربي أفرادًا معدودين١.
ونلحظ فيها حصيلة حسنة من علوم الفلك والجغرافيا والحيوان والنبات والجيولوجيا٢.
وينقل عن الفارابي بحثًا، فيرى أنه استعمل كلمة "أثولوجيا"، فيصححها في الهامش ويقول: كذا في الأصل، وصوابه "ته ثولوجيا"٣.
ويضع رسالته الشهيرة عن الجن، فيترجم له طلابه ما جاء في معجم لاروس وفي دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة "جن"٤.
وترى في كتابه "إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق" بحثا عن "التلغراف" ومعناه، واشتقاقه من اللغة اليونانية، وأول من استعمل الكهرباء في المخابرة بعد. وكذلك "التليفون". ثم يشير إلى "التلغراف اللاسلكي" الذي كان حديث العهد بالظهور٥.
_________
١ الفتوى في الإسلام ص٦٦.
٢ دلائل التوحيد ص٤٨.
٣ دلائل التوحيد ص٦٤.
٤ مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن ص٤٧-٤٨.
٥ ص٧٥.
1 / 23
ويصاب بالبواسير، فيؤلف كتابًا يسميه "ما قاله الأطباء المشاهير في علاج البواسير"١.
قال عنه عميد كلية الطب الأستاذ الدكتور عزة مريدن: "رسالة جامعة لكل ما يريد الباحث معرفته مما قيل عن هذا المرض قديمًا وحديثًا".
ويشير إلى ما قاله علماء البيولوجيا من موافقة الأولاد لوالديهم في بعض الأوضاع الجسدية والصفات النفسية٢.
ويبحث في ذرائع إصلاح الزراعة، فينبه إلى السمادات الكيماوية وأنواعها: الفوسفورية، والبوتاسية، وإلى ضرورة استعمال الآلات الميكانيكية في الحرث والحصاد، وإلى الآفات والأمراض والحشرات الزراعية، وطرق مكافتحها ... ٣.
ويتناول الحياة الدستورية، ويعقد فصلا عن أدب النائب في مجلس المبعوثين، وعن شروطه فيقول: "لا يطلب النائب بين خزائن النقود، ولا من وراء سجوف النعمة، ورغد العيش، فإن من ترفع عنك لا يهبط إليك" ولا يفوته من أن يشترط على النائب تضلعه في علم الحقوق، ومعرفته لحركة المجالس النيابية عند الأمم الراقية، وإدراكه علائق حكومته بحكومات أوروبا، وما نلته من الامتيازات، وأن يكون قادرًا على الاستخراج من كتب السياسة والإدارة والقضاء بإحدى اللغات الأجنبية٤.
واستشهد بشروح قانون التجارة وقوة المراسلات -ومنها البرق- في الإثبات بين الخصوم٥.
ويدعو المفتين إلى ضرورة التضلع في العلوم الرياضية٦.
ويبحث مشكلة من مشاكل هذا القرن الكبرى وهي التمييز بسبب العنصر أو العرق أو اللون عام ١٣٢١-١٩٠٤ فقرر أن "منشأ هذه الخرافة استعباد الزنوج، وأن من أحنى قامة الذل والهوان، نهض يطالب بحقوقه المهضومة، ويناقش ظلامه الحساب"٧.
_________
١ ما زال مخطوطًا.
٢ شرف الأسباط ص٤٥.
٣ تعطير المشام ج٣ "مخطوط".
٤ جوامع الآداب ص١١٢.
٥ إرشاد الخلق ٥٧.
٦ الفتوى في الإسلام ص٥٠.
٧ دفتر أواخر شوال "مخطوط" الورقة ٣٩.
1 / 24
وأولع عام ١٣٢٤ - ١٩٠٧ بفقة اللغات "الفيلولوجيا"، وأخذ يبحث عن أصول بعض الألفاظ المعربة من لغاتها الأصلية: اليونانية، والسريانية، والعبرية، والفارسية، والقبطية، والألمانية، والإيطالية، والفرنسية، وغيرها١.
لقد كان آخذا بأطراف المعرفة من كل سبب، لم يمنعه عن ذلك مخالفة في الدين أو المذهب أو العقيدة أو الطريقة، وأتاحت له حريته الفكرية أن يجول في آثار عقول الأمم، إلى اختلاف مللهم ونحلهم.
٧- حرية واضطهاده:
آمن القاسمي بالحرية وقدسها، وأحب رجالها، وعشق أبطالها، وسعي إليها، وقضى حياته كلها، هو يرى أن الإنسانية ملازمة للحرية.
ولقد كان هذا واضحًا منذ طفولته المبكرة، فعرف بين أقرانه بالتحرير من الأوهام، وتقديسه لسلطان العقل، وحرية الفكر.
ولم يكن هذا خافيًا على حكام ذلك الزمان، فلفقوا له من مطلع شبابه تهمه خطيرة هي "الاجتهاد"، وألفوا لذلك محكمة خاصة دُعي للمثول أمامها مع لفيف من العلماء فاستجوبوا جميعًا، وأطلق سراحهم، إلا القاسمي، فقد أوقف ليلة واحدة في دائرة الشرطة، ثم أخلي سبيله في الصباح.
كان هذا في عام ١٣١٣ - ١٨٩٧، وله من العمر ثلاثون عامًا.
لقد دون القاسمي وقائع المحاكمة في ترجمته لنفسه. ويغلب على ظني أن هذه الحادثة هي الحادثة الكبرى التي وقعت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري -أواخر القرن التاسع عشر الميلادي- في البلاد الشامية.
فلم يكن في البلاد أحزاب سياسية، ولا حركات قومية، وإنما كان قوام الدولة على الخلافة ومذهب الدولة الرسمي هو المذهب الحنفي، فاتهام القاسمي بالاجتهاد مذهب
_________
١ المفكرة اليومية لعام ١٣٢٤-١٣٠٦ "مخطوط".
1 / 25
خامس في الإسلام هو "المذهب الجمالي"، كان ممكنًا أن يؤدي به إلى أعماق السجون أو إلى أبعد المنافي.
أضف إلى ذلك أن الاجتهاد يعني الحرية، وكلمة "الحرية" بمختلف أشكالها وألوانها، بما في ذلك الحرية الدينية، كانت تأباها سياسة الدولة، وتحاربها دون هوادة أو رحمة.
ولئن كانت هذه الحادثة قد مرت دون أن تؤثر على حياة القاسمي، إلا أنها تركت آثارًا كبرى في طرائقه في الإصلاح، والتأليف والدعوة والإرشاد.
ووقعت حادثة أخرى كانت أخف من الأولى وقعًا: ذلك أنه في ٨ من صفر ١٣٢٦ - ١٩ آذارأيار ١٩٠٨ فتشت كبته بالرسدة في الجامع، وفي حجرته بالدار. وبقيت الكتب التي أشتبه بها وصودرت حتى ١٨ ربيع الآخر ١٣٢٦ - ١٩ إيار ١٩٠٨ وأعيدت١.
ثم يعلن استئناف الحياة الدستورية في المملكة العثمانية، فينتهج مع الأحرار، ويرى أن فجر عصر جديد قد آذن بالانبلاج.
ولكن الواقع يكذب هذه الآمال، ويتضح أن الأتراك قبل الدستور كانوا أرحم من الأتراك بعد الدستور، فلم تكد تمضي سنة وبعض السنة، على إعلان الحرية، حتى يدعى القاسمي أمام قاضي التحقيق بدمشق ليستجوب عن التهم التي تضمنها إدعاء الحق العام عليه وهي: "أن جمعية النهضة السورية لم تنشأ إلا بتشويقه، هو والشيخ عبد الرزاق البيطار، وأنهما من أركانها، وأنها فرع لجميعات في البلاد كاليمن ونجد، وأنها تطلب الاستقلال الإداري، وتريد تشويش الأمور الداخلية بطلب حكومة عربية، وأن لهم مكاتبات مع أمراء نجد ومواصلات، وكذلك مع المتمهدي في اليمن، وأن الشيخ طاهرا المغربي هو المحرض للمتمهدي على القيام لأنه مغربي. وما مذهب الوهابية، وكما عدتهم في الشام.. إلى نحو ذلك"٢.
وإذا كنا لا نعرف عن هذه الحاديثة التاريخية الكبرى أكثر من هذه الأسطر، لفقدان إضبارتها، ولأن الأحياء الذين عاصروها لا يذكرون عنها شيئًا، فإن في هذه
_________
١ المفكرة اليومية ١٣٢٦ - ١٩٠٨ "مخطوط".
٢ المفكرات اليومية، ١٤ رمضان ١٣٢٧ - ٢٩٨ أيلول ١٩٠٩ "مخطوط".
1 / 26
الأسطر من الدلالة على خطورتتها ما كان يمكن أن يؤدي بالقاسمي إلى المشنقة، أو إلى التنكيل القبيح.
وهكذا فإن القاسمي قد عاش الدستور وبعده، وهو هدف للاضطهاد، بسبب آرائه الحرة، وأفكاره الجريئة.
أما مظاهر حريته الكاملة فستراها حين بحث آرائه وأفكاره.
٨- آراؤه وأفكاره:
في هذا البحث عناوين لبعض آراء القاسمي وأفكاره، والتقطتها من بعض كتبه دون استقصاء. وهذه العناوين التي كتبها بقلمه لا تغني عن الرجوع إلى أصول الأبحاث. وإنما تعطى فكرة عن عقل الرجل وتفكيره، فلقد كان يرى:
إن الدين مدرسة أخلاق١ وأنه يدعو للوحدة لا للتفرق٢. وأن العقل حجة الله القاطعة البالغة، والنقل لا يأتي بما يناقض العقل٣. وأن العلماء اتفقوا على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أول النقل بالعقل٤.
إن باب التناظر، والتحاور في المسائل مفتوح، حتى في مثل أخبار الصحيحين، وهي ما هي، وإن غل الفكر عن النظر والتأمل هو أعظم هادم لصرح التحقيق، فإن الحقيقة بنت البحث٥.
وإن حرية العلم والتأليف قضت أن لا يبخل بفكر، ولا يضن برأي، لا على أن يهمس به همسًا، بل على أن يبث وينشر، ويصدع به في المجامع والجوامع ويجهر به على المسامع٦.
إن تبين وجه الحق إنما هو بالوقوف على تفصيل المتنازع فيه وتحليله، وطرح كل ما سبق إلى القلب وغرس فيه، من تقليد أو تحزب أو تقية، أو حمية٧ ...
وإن الحق ليس منحصرًا في قول ولا مذهب، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها٨.
_________
١ دلائل التوحيد ص١٣٤.
٢ إقامة الحجة ص٤.
٣ دلائل التوحيد ص١٢٩.
٤ دلائل التوحيد ص٣١.
٥ الأجوبة المرضية ص٦.
٦ نقد النصائح الكافية ص٧.
٧ نقد النصائح ص٢٤.
٨ الاستئناس ص٤٤.
1 / 27