فهيهات هيهات أن يتركوا الجموع تذهب ولا يقصوا أثرها ويتبعوها إلى حيث تذهب، وإن كانت جهنم هي المقصد والمتجه.
وهكذا تجمع مئات آخرون حول الجميعة الذين أنافوا على الألف، وساروا يتبعهم كل من رآهم، حتى إذا بلغوا أرض فهمي وقف حمزة وألقى أوامره في حسم وفي اختصار، وتفرقت الأضواء، وأحاط الخفراء بالأرض، وتسلم كل نفر خطا وبدأ جمع القطن. ووقف المتفرجون لحظات وقد عقدت الدهشة ألسنتهم ولكنهم ما لبثوا أن تبينوا مقدار الجرأة والابتكار في هذا الذي يحدث، وهم مطمئنون أن سندهم الباشا؛ فما لهم لا يشاركون فيما أخذ فيه الجميعة، وتصبح روايتهم ذلك مؤيدة بأنهم جمعوا مع من جمع؟ وتمكنوا أن يجمعوا ثلاثمائة فدان، بدءوا فيها بعد أذان المغرب وانتهوا منها وصلاة العشاء ما زالت حاضرة.
حتى السرقة في القرى توقت بأوقات الصلاة. وهكذا نستطيع أن نقول إنه حين وجبت صلاة الفجر كان قطن فهمي عبد الحميد في مخازن راشد باشا برهان مستقرا، وكأنه فيها منذ أيام طويلة. •••
أصبحت هذه القصة أحدوثة المديرية كلها يتناقلونها بشيء أثير من الدهشة. فراشد حسن السمعة لم يمد يده في حياته إلى ما ليس له، وفهمي عبد الحميد ليس فوق مستوى الشبهات، وهكذا سرعان ما ابتدعت الإشاعات قصة عن السبب وصدقها الناس.
فالناس لا يحكمون على أحد من حادثة واحدة، وإنما هم ينظرون في ماضيه جميعا، ويقارنون ويقدمون الحيثيات، ثم يصدرون الحكم.
لقد أكل فهمي عبد الحميد على راشد مبلغا من المال، وأبى أن يرده إليه؛ فلم يجد راشد أمامه سبيلا إلا هذا، فهو لا يحب أن يستلب أحد أمواله، ما دام هو لا يحب أن يستلب أموال أحد.
وهكذا أصبح فهمي عبد الحميد المجني عليه ظالما لا مظلوما، ولا إشفاق عليه؛ فهو الذي صنع اسمه هذا وسيرته تلك بين الناس، فليس عجيبا أن يكون هذا هو حكم الناس عليه. وأن من يقدم على ما أقدم عليه نحو شخص أكرمه وأقال عثرته وحفظ عليه ماله وأرضه، ليس غريبا عليه أن يكون اسمه بين الناس غير كريم. فهذا الاسم يتكون عند الناس من أشياء صغيرة غاية في الصغر، يأتيها ذو النفس اللئيمة عن غير قصد ويستقبلها الناس في كثير من الأحيان، وبنوع من النفور قد لا يعرفون سببه، وليس غريبا أن تسمع من الناس عن فلان منهم أنهم لا يرتاحون إليه، وربما عجزوا عن إبداء الأسباب إن سألتهم أسبابا، فهمي عبد الحميد هو هذا الفلان من الناس عند الناس.
عرف أهل المديرية مما تواتر عن هذه الحادثة أن «راشد» في القرية، فتوافدوا إليه من كل البلاد يهنئونه بالباشوية ويسخرون من فهمي عبد الحميد، وربما حاول أصدقاؤه المقربون أن يعرفوا منه ما دعاه إلى ما فعل، ولكنه كان يقول في حسم: هو يعرف وهذا يكفي.
وقصد إلى بيت راشد باشا مدير المديرية والمأمور والحكمدار، وقال الباشا المدير: جاءتنا شكوى من فهمي عبد الحميد.
وقال راشد في نوع من التجاهل: خيرا. - لا تحاول معنا تجاهلا؛ فقد حققنا الشكوى. - مم يشكو؟ - المهم أن كل رجاله رفضوا أن يشهدوا ضد أي أحد من رجالك. فأشجع من فيهم الذي قال: ناس لا نعرفهم. وأغلبهم قال: ليسوا من الناحية ولا من الجهة. - ما زلت لا أعرف عم تتحدث يا سعادة الباشا! - والله وأنا الآخر لا أعرف عم أتحدث! اطلب لنا القهوة يا سعادة الباشا. - إنها عادة تأتي دون أن أطلبها يا سعادة الباشا، شرفت، شرفت يا سعادة الحكمدار، وأنت يا سعادة البك المأمور. - انتهزنا الفرصة لنهنئ سعادتك بالباشوية. - أكرمك الله يا سعادة الحكمدار، إن شاء الله نهنئك بها قريبا.
Unknown page