K.Jaspers ، بأوصاف الاستثناء المطلق. وإذا كنا نحس في كل صفحة مما كتبه بنفوره من عصره، وبعده عن ظروف الجماعة التي تعيش حوله، وبحثه عن مثله العليا في عصور ماضية بعيدة، فما ذلك إلا لأن الصورة المنفرة التي رسمها عصره في أذهان مفكريه قد أرغمته على أن يهرب منه، ويحلق بتفكيره بعيدا عنه.
وأخيرا، فقد قلت في مستهل هذه المقدمة إن قصتي مع نيتشه هي قصة الكثيرين. ولست أشك في أن المرء، إذا بدأ حياته العقلية بداية سليمة، سيشعر حتما بحاجته إلى مفكر ثائر على الأفكار والمثل السائدة، يدعو إلى تحطيمها بقسوة وعنف، ولا يعرف في ذلك توفيقا أو مهادنة؛ وعندئذ لن يجد المرء خيرا من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها أصنام العصر؛ غير أن فترة الثورة هذه تعقبها - في كل تطور طبيعي سليم - فترة البناء الإنساني الهادئ. وعندئذ لن يجد المرء في نيتشه مرشدا له؛ إذ إن قدرته كلها تنحصر في حملاته ذات النتيجة السلبية وحدها. فإذا سار تطورنا الفكري في طريقه الصحيح، فلا جدال في أننا لن نقنع بما قال به نيتشه طويلا، وسنبحث عن مثل إيجابية أخرى لا يرشدنا تفكيره إليها، ومع ذلك سنظل نذكر دائما صيحة الاحتجاج الأولى التي لا بد أن يبدأ بها كل تطور عقلي سليم.
فؤاد زكريا
حياة نيتشه
الفصل الأول
الفكر والحياة
شيء واحد اتفق عليه كل من كتبوا عن نيتشه، وأكده هو ذاته في كتاباته؛ وأعني به أن فلسفته قد امتزجت بحياته وأصبحت تكون قطعة منها، وأنه يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. وهكذا كان نيتشه يمثل نوعا فريدا من الفلاسفة؛ نوعا يجعل حياته في هوية مع فكره، ويقضي على كل حد فاصل بينهما، ولا يثق بأية مشكلة عقلية لا تسري مع الحياة في تيارها، ولا تنبع من أعماق شخصية من يفكر فيها.
ولسنا ندعي أننا سوف نخرج على هذا الإجماع، ونقرر أمرا مخالفا لما شهد به نيتشه ذاته، وأكده كل الباحثين عنه؛ غير أننا نود أن نوضح المعنى الحقيقي لهذا الاتفاق بين حياة الفيلسوف وتفكيره، وأن نستخلص الدلالة الصحيحة لتلك الفلسفة التي تنبع عن الحياة، وتتقلب معها في كل ما يطرأ عليها من تغيرات.
ذلك لأن القول بأن فكر الفيلسوف في هوية مع حياته، وبأن كل الحدود الفاصلة بينهما قد أزيلت، هذا القول لا يوضح الأمور كثيرا؛ فمن الممكن أن تكون حياة الفيلسوف سائرة في مجراها الطبيعي، ويكون تفكيره تابعا لهذه الحياة، مستمدا كله منها، ومما اكتسبه من خبرات فيها، ومن الممكن أيضا أن يكون تفكير الفيلسوف هو الأصل، وتكون حياته كلها دائرة حول محور هذا التفكير؛ في الحالتين تكون حياة الفيلسوف هي وتفكيره شيئا واحدا، ولكن شتان ما بين الموقفين.
إن الشخصية الأولى شخصية ذات تجارب زاخرة، وحياتها مليئة بالخبرات الواقعية التي تزيدها عمقا على الدوام، وتظل هذه التجارب والخبرات منطلقة في طريقها الطبيعي، لا يعوقها شيء، ولا يحول بينها وبين الحركة الدائمة حائل، ومن خلال هذه التجارب الممتلئة المتجددة، ينمو تفكير الفيلسوف، وعليها يتغذى كأي كائن حي. فإذا ما تسنى لك أن تطلع على هذا التفكير مدونا، لما وجدته إلا ثمرة لتجارب الفيلسوف التي تستمد من الحياة التلقائية وتكتسب من الواقع المتجدد.
Unknown page