والحق أنه كان من المحال أن يسود التفاهم بين فاجنر وبين ذلك الذي أراد أن يكون «عدو المسيح» وأن ينقد كل ما يمت إلى المسيحية بسبب؛ فالروح الدينية كانت تثيره على الدوام، وما كانت جريرة الأخلاق السائدة، التي كرس نيتشه كتبا بأسرها لنقدها، إلا أنها في أساسها متأثرة بالتعاليم الدينية، وبالمسيحية على وجه الخصوص، وتدعو إلى الضعف والاستسلام. وما كانت حملته على الفلسفات الكبرى إلا لدعوتها إلى مبادئ قريبة من المبادئ الدينية، كمبدأ الفضيلة العقلية الخالصة عند سقراط وأفلاطون. فأين آراء فاجنر المحافظة من هذه الثورة العاتية؟ إن فاجنر الذي عبر عن ولائه وإخلاصه للمسيحية تعبيرا صريحا في بارسيفال، كان في واقع الأمر مسيحيا مخلصا من بداية الأمر؛ فلو حللت أية واحدة من دراماته الموسيقية، لوجدت فيها فكرة التكفير والتوبة تلعب دورا أساسيا، حتى في خاتم النيبلونجن
Niebelungenring
التي خلق فيها فاجنر شخصيته زيجفريت، محطم التقاليد الثائر، حتى في الدراما، يعود فاجنر في النهاية إلى نغمته المعهودة، فينادي بالتوبة والخلاص، ويتوق أخيرا إلى الفناء وإنكار الحياة.
فإذا تركنا أفكار فاجنر جانبا، وانتقلنا إلى موسيقاه، لوجدنا نيتشه يوجه إليها هي الأخرى حملة عنيفة، يمكننا أن نلتمس لها تعليلا واضحا من حالة نيتشه الصحية. ويبدو أن موسيقى فاجنر العميقة كانت تسبب له إجهادا فكريا عنيفا، وكان يحتاج في تتبعها إلى توتر ذهني يستهلك من طاقته العقلية قدرا هو أحوج ما يكون إليه. ومن هنا كان نيتشه في حاجة إلى موسيقى خفيفة راقصة، تجدد نشاطه وتفكيره ولا تستهلكهما. ولقد صرح نيتشه بذلك حين قال: «إن كل ما هو جيد خفيف، وكل ما هو إلهي يسير على أرجل دقيقة حساسة.» وهذا هو ما وجده نيتشه في ألحان بيزيه
Bizet ، الذي كانت أوبراه المشهورة «كارمن» بمثابة كشف عالم جديد بالنسبة إلى نيتشه. فأين تلك الرقة الرفيعة من تعقد فاجنر الذي أدرك أن موسيقاه لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى الأذهان مباشرة، فأخذ يخرج الكتب واحدا تلو الآخر لتبريرها وشرحها؟ لقد كان نيتشه ولا شك محبا للحن
Mélodie ، وكان يؤثره على التناغم المعقد الذي سيطر على موسيقى فاجنر. كان يريد في الموسيقى - كما قال - شيئا يمكن تصغيره، وكان يرى الألمان جميعا عاجزين في ميدان اللحن، ولا شك أن أقوال نيتشه في هذا الصدد إنما تخضع لمنطق التبرير فحسب؛ بدليل ما صرح به في كتابه الأخير من أن مواجهته فن فاجنر بموسيقى بيزيه لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. وعلى أية حال، فقد أراد نيتشه بكل هذا النقد شيئين: أولهما أن يتابع في مجال الموسيقى حملته على فاجنر في مجال الفكر؛ إذ كان عدم التوافق في الأفكار هو الأصل، وثانيهما أن يبرر الضعف الطبيعي الذي انتاب أعصابه، والذي جعل هضم موسيقى فاجنر أمرا ثقيلا بالنسبة إليه، ودليل ذلك قوله في كتاب العلم المرح: «إن دوافعي ضد موسيقى فاجنر دوافع عضوية ... فما أشعر به فعلا عندما أستمع إلى تلك الموسيقى هو العجز عن التنفس بسهولة؛ ولذا تثور أقدامي وتغضب؛ إذ إنها في حاجة إلى الإيقاع والرقص والمشية المنتظمة، وكل ما ترمي إليه من الموسيقى هو قبل كل شيء ذلك الطرب الذي ينبعث من انتظام المشي والخطو والقفز والرقص. وفضلا عن ذلك، ألا تحتج معدتي وقلبي ودورتي الدموية وأمعائي بدورها؟ ... ما الذي يريده جسمي حقا من كل موسيقى؟ إنه يريد أن يصبح خفيفا، وكأن كل الوظائف الحيوية فيه تزداد سرعة ونشاطا بفعل إيقاع خفيف جريء منطلق واثق من نفسه.» وهكذا تنعكس حالة نيتشه الصحية على هذا النقد بوضوح، ويبدو إيثاره لإيقاع بيزيه المنتظم على تناغم فاجنر المعقد أمرا هين التفسير بالنسبة إلى من كانت لديه أدنى فكرة عن وظيفة الإيقاع المنتظم في تخفيف التوتر العصبي.
ولعل القارئ قد لاحظ من خلال تطورات تلك العلاقة التي تمثلت فيها أهم وقائع حياة نيتشه، تردد ظهور تلك الصفة التي قلنا من قبل إنها أهم ما يميز حياته؛ وأعني بها تركز هذه الحياة حول المشاكل الفكرية، واتخاذها عناصرها ومقوماتها كلها من هذه المشاكل؛ ذلك لأن الخلاف بينه وبين فاجنر - وهو الخلاف الذي كان له أبلغ الأثر في تطور حياته - إنما كان خلافا حول «أفكار» قبل كل شيء. ولا جدال في أن نيتشه لو وجد لدى فاجنر من الأفكار ما يلائمه، لخفت حملته على موسيقاه إلى حد بعيد.
وتبدو تلك الصفة الأساسية في حياة نيتشه؛ أعني سيطرة الأفكار الخالصة لا الواقع العيني على هذه الحياة سيطرة تامة؛ تبدو تلك الصفة واضحة في حملة على فاجنر خلال أعياد بايرويت. لقد كان يطمع من فاجنر في أن يأتيه بالحقيقة كاملة صريحة. كان يريد منه أن يصبح فيلسوفا ذا دعوة عقلية مثله، وأن يحارب من أجل الأفكار الجديدة حربا مباشرا. ولكم كان نيتشه ساذجا حين تصور أن الفن وسيلة لإثبات فكرة فلسفية بطريق مباشر، وسبيل يكفي وحده لبعث نهضة إنسانية شاملة. إن غاية ما يصل إليه الفنان هو أن يشير من بعيد، ويلمح، ويرمز. وحين ينقلب الفن إلى خطب منبرية ذات مدلول مباشر، فإنه يفقد ماهيته ذاتها، مهما كان نبل الدعوة التي يدعو إليها. وليس معنى ذلك أن على الفن أن ينطوي على ذاته، أو يكتفي بالطابع الشكلي الصرف، ويخضع لهذا الشعار الزائف: «الفن لأجل الفن ...» فلكل فنان صادق رسالة، ولكنه لا يستطيع وحده أن يصلح الناس إصلاحا شاملا، أو أن يبعث نهضة جديدة بفنه فحسب، بل كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يتضافر مع غيره في مجهود مشترك، يكون نصيبه منه منحصرا في الحدود التي لا يتعداها التعبير الفني؛ غير أن نيتشه «صدم» حين وجد أن بايرويت لم تكن إلا مسرحا معتادا كسائر المسارح! فما الذي كان ينتظره إذن؟ أكان يريدها منبرا يدعو فيه فاجنر إلى الحياة الجديدة؟ وماذا كان يملك من وسائل لهذه الدعوة؟ ألم يكن التعبير الموسيقي والشعري، في حدود الإمكانيات المسرحية، هي وسيلته الوحيدة من حيث هو فنان؟ وهل يسمح له واقع هذه الحياة بأن ينتقي مستمعين «مختارين» تتأثر نفوسهم بفئة المتكامل فينتشروا في الأرض ليبشروا بالحياة الجديدة؟ لا شك أن مطلب نيتشه هذا كان وهما وخيالا، إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفكرة الخالصة التي لا تعترف بحدود الواقع ولا تخضع لمقتضياته تحتل جميع أركان نفسه، ومن خلالها وحدها يقوم العالم ويصدر حكمه على الناس.
فلسفة نيتشه
الفصل الأول
Unknown page